إن جميع المدارس النقدية سواء أكانت الغربية منها أو الشرقيه في القديم والحديث، جميعها مرت بمراحل عدة في تطويرها وتكوينها، وقد تأثر هذا التكوين بالأحوال السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، كذلك مرت كل مدرسة بمراحل ازدهار وخمول، واهتمام وعدم اكتراث، والمدرسة العمانية في الشعر الشعبي مرت بهذه المراحل كغيرها، فقد اعتراها شيء من التطوير والتحديث، وقد أثرات وتأثرت بالمدارس والمناهج الشعرية الأخرى التي غزت المجتمع العماني سواء عن طريق الإعلام، أو هجرة أصاحب الاقلام والمبدعين العمانيين أو عودة هؤلاء الأدباء بأساليب جديدة، أثرات في مسيرة هذه المدرسة، ولكن بقية أركانها وطرقها المعهودة والأساسية ثابتة ومتأصلة في ذات المجتمع دون غيره، ولا شك أن هناك تشابها بينها وبين غيرها لكن تبقى الخصوصية العمانية هي أقوى تلك السمات التي سوف نتأتى عليها في هذه المقالات المتتالية في التأصيل والتأسيس لهذه المدرسة، ولست هنا في إطار السرد التاريخي أو التتبع له بل ذكري لهذه المدرسة والتأصيل لها خشيت أن تذهب في مهب الريح، ولا يأتي عليها أحد، وقد تغافلها كثير من الأدباء والكتاب والمؤرخين للأدب الشعبي العماني وغير العماني، لذلك توكلت على الله واستخرت في الكتابة عن هذه المدرسة وذكر رموزها وبعض المؤسسين لها، سواء بقصد أو بغير قصد، وأركانها التي اعتمدت عليها في العصر الحديث وما قبله بسنوات قليلة، وسوف أقف على مميزات هذه المدرسة وما تأسست عليه، والله أسأله التوفيق والسداد، فإن كان التمام فمن الله وإن كان النقص فمني.
وسوف أتحدث في هذا الموضوع في أربعة محاور سوف تنشر تباعا من خلال هذه الإطلالة الثقافية، تتمثل في ملامح المدرسة العمانية، وما يميز المدرسة العمانية عن غيرها من المدارس في الشعر الشعبي وبعض من رموز المدرسة العمانية والذين أثروها وفترات الضعف والقوة في المدرسة العمانية في العصر الحديث.
فالمحور الأول الذي هو (ملامح المدرسة العمانية في الشعر الشعبي) وبعض التفاصيل فيها نستطيع القول فيه إن كيان هذه المدرسة مرتبط ارتباطا كليا، بصفات الحياة العمانية وملامح الإنسان العماني بكل تفاصيلها، بحيث لا نستطيع أن نفصل بين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وجغرافية المكان، عن المنتج الشعري الذي يتداول بين أفراد المجتمع سواء في أشعارهم المغناة أو المنظومة، والتي تتلى في أمسياتهم الشعرية أو محافلهم الرسمية وغير الرسمية وبالتالي حتى في قصائدهم التي ترتبط بفنونهم الشعبية، فكل ذراع مرتبط بالآخر سواء على مستوى اللغة الشعرية أو المفردة الشعبية أو الصورة في القصيدة، ومهما اختلفت الأساليب أو الطرق ففي النهاية المصب واحد، وهنا أعني القصيدة هي القصيدة بأي أسلوبٍ كتبه، والشاعر هو الشاعر في الفن الشعبي أو القصيدة المنظومة في التفعيلة أو العمودي فهو يكتب قصيدة أو أبيات ويسمى شاعر في أي منظومة ينتمي إليها.
إن التنوع الجغرافي الذي تتمتع به السلطنة أوجد بيئة شعرية خصبة الملامح في كل أركان القصيدة الشعبية، ففي البيئة البدوية البحتة تجد النص الشعري الذي يتسم بالوصف والبحور ذات الإيقاع السهل المتنوع مع التركيز على وصف الصحراء بكل تفاصيلها الدقيقة، من أشجار وأعشاب وزهر وفيافي وأسماها، كذلك الإبل والخيل وغيرها مع الاتجاه نحو الحنين والجانب الغزلي من القصيدة يكون واضحا وجليا، مع سلامة اللغة سلامة مطلقة بحيث يكون أكثر تكوين النص في مفرداته أقرب للفصحى لو دققت وبحثت في تفاصيله.
والبيئة البحرية تجد في نصوص شعرائها ما يظهر ملامح أخرى تخدم النص من عدة جوانب تجد فيها الترحال والسفر، والحديث عن البحر وأسماء السفن وأسماء المدن البحرية ذات الأهمية التاريخية أو الاقتصادية، وأسماء الموانئ، والحنين للوطن، وذكر الغربة، وهم أكثر ذكرا للتحرر والتحليق، كذلك تتضح ملامح الرمزية في نصوصهم الشعرية، ومخاطبة الذات، مع التعميم والتخصيص، ولا يعني أن هذه الملامح تخلو عند البدو أو البيئة الجبلية، ولكنني أعني هي أكثر وضوحا عندهم، مع عدم خلوها عند غيرهم، كذلك ملمح آخر وهو أنهم أكثر قابلية للتغيير والتحديث في النصوص والبحور وبذلك الأساليب وتنوعها.
البيئة الجبلية وشعراء هذه البيئة لهم عدة مزايا فهم يركزون في أساليب الطرح ليس على الوصف البيئي فقط بل على الرصانة في الأسلوب وقوة اللغة والترصيع والبدائل اللغوية، كذلك التلاعب باللفظ والمضمون، واستحضار الشخصيات التاريخية، وهم بذلك أقرب للمدرسة العمانية القديمة والتي ما زال بعض الشعراء يتبعونها، وهي تركز على الترميز والألغاز في بعض الاحيان، كذلك تعتمد في أغلب الأحيان على القرب من الفصحى وشعرائها والتأثر بهم .
بيئة المدينة وهي بيئة أكثر شمولية في قصائد شعرائها فهم يجمعون بين البيئات الثلاث في أغلب قصائدهم، ويتميزون في عدة نقاط منها، يتضح في قصائدهم العلم، وتوظيف النصوص القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة والعلم بصحتها كذلك قصص الأنبياء، وقصص الأمم السابقة وهم يتبارون في أظاهر ذلك، ومن بين شعراء المدن العلماء والفصحاء فإذا كتبوا الشعر الشعبي اتضح ذلك العلم في قصائدهم وبرز هذا الملمح، وبهذا فهم يمتازون عن غيرهم بسعة الاطلاع، وقوة الحجة، والتنوع في طرح النصوص، وإبراز جماليات الشعر وملامح الرقي.
وبهذا برزت ملامح المدرسة العمانية في بداية تأسيسها، وما هذا الذي ذكرناه من ملامح إلا استمرار لما كانت عليه هذه المدرسة من سلامة في اللغة، وبروز المعاني، استخدام الرمز كعنصر بارز في القصيدة العمانية وهو في اعتمادهم عليه في الإجادة واختبار ذكاء الشاعر، أو تغطية أمر ما، كذلك من الملامح المهمة عدم التفاخر بالقبائل وسطوتها إلا قليلا وليس من أسس القصيدة العمانية هذا الملمح، ومن الملامح كذلك بروز العلم الشرعي من قرآن وسنة وسيرة الانبياء والأمم السابقة، وتوظيف هذا الأمر كله في النص الشعري أعطاه صفة الريادة والثقافة، التي بالتالي ميزت المدرسة العمانية الشعبية عن غيرها من المدارس بصفة أو بأخرى.
وفي حديثي المقبل سيكون عن (ما يميز المدرسة العمانية الشعبية عن غيرها من المدارس في الخليج العربي وغيره) لنا لقاء بإذن الله.

صالح بن خميس السنيدي