الحمـد لله حمـدا كـثـيرا مباركا كما يحـب ربنا ويـرضى، أرسـل الرسـل تتـرا، والصلاة والسلام عـلى المبعـوث رحـمة للعالمين بشـيرا ونـذيـرا، وعـلى آله وأصحـابه أجمعـين، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان يـوم الـدين وبـعـد:
فـيقـول الله تعالى: (وما أنا بظـلام للعـبيـد)، لا أظـلـم أحـدا، لا الضالين ولا المـضلين، لا شـيطان الإنس ولا شـيطان الجـن، تعالى الله عـن الظـلم عـلـوا كـبيرا، وكل جـزائه عـدل، يجـازى كـلا عـلى قـدر ذنبه، وعـلى قـد ضـلاله وإضـلاله، كما قال الله تعالى: (فـمـن يعـمل مـثقال ذرةٍ خـيرا يـره، ومـن يعـمـل مثـقـال ذرةٍ شـرا يـره) (الـزلـزلة 7 ـ 8)، وقال تعالى:(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) (العـنكـبوت ـ 13).
بعـد هـذا ينتـقـل الله تعالى إلى وصـف الجـنـة والنار وصـفا مخـتصرا ، بعـد أن بـين لنا المرحلة الأخـيرة للحساب، والتي تتمـثـل في الـذهـاب إلى المصير، حيـث يسـتقـر أهـل الجـنة في الجـنة وأهـل النار في النار ، ويـبـدأ السـياق بـقـوله تعالى: (يـوم نـقـول لجهـنـم هـل امتـلأت وتـقـول: هـل مـن مـزيـد) (ق ـ 30)، ولايـزال الـكلام متصـلا عـلى يـوم القـيامة بـداية مـن قـوله تعالى: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)، ويـوم القـيامة يـذكـر في القـرآن الكريم بـلـفـظ (الـيـوم)، وقـد تـذكـر أمـور تـكـون في أولـه عـنـد النفـخ، وأمـور تكـون في وسـطه عـنـد الـوقـوف للحساب، وحـوادث في أواخـره عـنـد دخـول أهـل الجـنة الجـنة ودخـول أهـل النار النار، وكل هـذا يعـبر عـنه بـاليـوم، ونحـن لا نـدري طـوله ولا مـدته، ولا أحـد غـير الله يعـلم المـدة التي بـين نـفخـة الصـعـق وبـين أن يسـتقـر أهـل الجـنة في نعـيم دائم، ويستقـر أهـل النار في جحـيم دائـم، وإنما القـرآن الكـريم وبعـض الأحـاديث تـذكـر الأحـداث التي تقـع في ذلك الـيـوم، وإذا تأمـلها الإنسان يجـد بـعـضها تقـع في الأول والبعـض في الـوسـط، والبعـض في الأخـير.
فالمـراد إذن مـن قـوله تعالى:(يـوم نـقـول) هـو اليـوم الـذي لا يعـلم شـدته إلا هـو، إنه يـوم عـبـوس قـمـطـريـر، ويعـد كل ما ذكـره الله تعالى قـبـل مـن المشـاهـد وبخاصة ما يـقـع مـن التحـاور بين الإنسان الكـافـر الضال وبـين قـرينه، قال تعالى: (يـوم نـقـول لجهـنـم هـل امـتلأتِ ..)، فالـربـط محـكـم مـتين وظـاهـر بـيّن لا يحـتاج إلى تقـديـرات ولا إلى تقـريـرات ـ كما يـفـعـل النحـاة بظـرف الإعـراب ـ فـقـوله تعالى:(يـوم نقـول لجهـنـم) يعـني: هـذا يـوم نـقــول لجـهنـم، ولـو أن إنسانا نفـسه لا يتـرجـم مـعـاني القـرآن إلى لغـة، وأقـول: معاني القـرآن لا ألـفاظ القـرآن لأن القـرآن نفـسه لا يتـرجـم، وإنما تتـرجـم معـانيه، وقـلت: لـو أن إنسانا تـرجـم مـعـاني القـرآن لما عـبّر إلا بهـذا التعـبير ، ولا ينقـص من المعـنى شـيء.
قال الله تعالى:(يـوم نقـول لجهـنـم هـل امـتلأت وتقـول هـل مـن مـزيـد)، أراد الله تعالى أن يخـبرنا بنفسه عـما يقـع في ذلك اليـوم مـن سـؤاله جـهـنم، وجـواب جهـنـم، فـقال:(يـوم نقـول لجهـنـم هـل امـتلأت وتقـول هـل مـن مـزيـد) ذلك لأنه كـتب عـلى نفـسه كما قال:(ولـو شـئنا لآتيـنا كل نفـس هـداها، ولـكـن حـق القـول مـني لأمـلأن جهـنـم من الجـنة والناس أجـمعـين) (السـجـدة ـ 13).
فالله تعالى أقسـم، وأكـد جـواب القـسم باللام وبالنـون المشـددة، وكـذلك قال الشـيطان لما طـرده الله من رحـمته عـندما تكـبر عـن السجـود لآدم (عـليه السلام): (قال فالحـق والحـق أقـول لأمـلأن جـهـنم مـنـك وممن تبـعـك منهـم أجـمعـين) (ص ـ 84/85)، وإيـاكـم أن تخـطـئـوا وتـقـولـوا: كـيف يقـول الله تعالى: (ولـو شـئنا لآتيـنا كل نـفـس هـداها) أي: لـو شـئـت لجـعـلت الناس كلهـم طـائـعـين!.
نـعـم، إن الله قـادر عـلى هـذا، لأنه لم يعـص مجـبـورا أو مقهـورا، وافهـمـوا هـذه النكـتة جـيـدا، ولنفهـم معـرض الحـديث، فـقـوله تعالى:( وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) يعـني: لـو شـئـنا لأعـطيـنا كل واحـد هـدايته لـيكـون مـن أهـل الجـنة، ويـفـسر لنا هـذا المعـنى قـوله تعالى:
( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)(الشـعـراء ـ 4)، لـو شـاء الله لقهـر الناس عـلى الإيـمان بآية ينـزلها مـن عـنـده، كما يـؤمـنـون إذا رأوا الحـق عـنـد سـكـرات المـوت، حـيث يـؤمـن الكافـر ويـوقـن المـرتاب، ولـكـن لا ينـفـع الإيـمان نفـسا في تلك اللحـظـة، لأنه قـد جـاءت بعـض آيات ربـك، قال الله تعالى: (يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ )، وإنما يـريـد الله تعالى مـن الإنسان أن يـؤمـن طائعا مخـتارا، لا بإكـراه بنـزول بعـض الآيات، كما فـعـل ببني إسـرائيل إذ قال الله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعـراف ـ171)، بـل لـو شـاء الله لـنـزع الغـرائـز البهـيـمية من القـلـوب، والشهـوات مـن النـفـوس، ينـزع غـريـزة حـب المال وحـب الـولـد وحـب الـرئاسة وحـب الجـنس، ويجـعـل الناس كالمـلائكة عـبادا مـكـرمين، لا يـعـصـون الله ما أمـرهـم ويفـعـلـون ما يـؤمـرون، وليـس لهـم أي داع من دواعي المعـصية، ويـكـفي هـذا شـرحا للمشـيئة.
ولـكـن حـكمته ـ جل وعلا ـ اقـتضـت أن يخـلـق خـلـقا لا يجـبرهـم عـلى طـاعـة ولا يـرغـبهـم عـلى معـصية، يـرسـل إليهـم رسـلا، ويـنزل عـليهـم كـتبـا، ويبـين لهـم كل شـيء، ويخـيرهـم بـين الطـاعـة والمعـصـية، ويعـطـيهـم كامل الإرادة والحـرية في أفـعـالهـم، ويـقـول لهـم: هـذا طـريق الجـنـة وهـذا طـريـق النار، فـمـن شـاء فـليـؤمـن ومن شـاء فـليـكـفـر، كما قال الله تعالى: (إنا هـدينـاه السـبيـل إما شـاكـرا وإما كـفـورا) (الإنسان ـ3)، وقال تعالى: (وهـديناه النجـدين) (البـلـد ـ 10)، نجـد الخـير ونجـد الشـر، تلك هـي الأمـانة التي حـملها الإنسان الظـلـوم الجهـول.
فهـؤلاء صـنـف من الخـلـق مـكلـفـون ، خـلقهـم الله تعالى وخـيرهـم وأعـد لهـم داريـن، فـمـن أطـاع الله مخـتارا غـير مجـبـور فـله الجـنـة، ومـن عـصى الله مخـتارا غـير مجـبـور فـله النار، وهـذا معـنى قـوله تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (السـجـدة ـ 13) والشاهـد في قـوله تعالى: (لأمـلأن) فـقـد أقـسـم الله تعالى وكـتب عـلى نفـسه أن يمـلأ جـهـنم مـن العـصاة، وبـناء عـلى هـذا يسأل الله النار سـؤال العاقـل، قال تعالى: (يـوم نقـول لجهـنـم هـل امـتلأت؟ وتقـول هـل مـن مـزيـد).
والكـلمة مـأخـوذة مـن الآيـة الـكـريمة، وصارت تجـري عـلى ألسـنة الناس مجـرى المـثـل ويـعـبـرون بهـا، هـذا هـو المفهـوم حـتى صار الناس سـتعـملـونه في كـلامهـم إذ يـقـول أحـدهـم للآخـر: (هـل مـن مـزيــد) يعـني (زدني) وهـذا يـدل عـلى أن لـكل مـن الجـنة والنار شـوقا إلى أصحـابها، لجهـنـم رغـبة ملحـة إلى أن تعـذب الـذين عـصـوا وكـفـروا، بـل هي إذا رأتهـم من مـكان بعـيـد سمـع لها تغـيـظ وزفـيرا، كـما قال الله تعالى: ( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) (الفـرقان ـ 12)، تطـلـق أصـواتا فـظـيعـة غـيـظا عـليهـم، تـتمنى متى يـلـقـون فـيها حـتى تعـذبهـم تـنـفـيـذا لأمـر الله تعالى وطـاعـة له، وغـيرة عـلى دينه، وقـد ورد في بعـض الآثـار أنه يخـرج مـن النار لهـب لشـدة هـيجـا نها وزفـيرها في انـتظار مـن يـأتيها، حـتى إنه يـكاد يصـيب أهـل المحـشـر ، عـن أبي سـعـيـد الخـدري (رضي الله عـنه)، عـن نبي الله (صلى الله عـليه وسـلم) أنه قال: (يخـرج عـنـق مـن النار يتكـلم يـقـول وكـلـت اليـوم بـثـلاثة: بـكل جـبار، وبمـن جـعـل مـع الله إلها آخـر، وبمـن قـتـل نـفـسا بـغـير نفـس، فـينـطـوي عـليهـم فـيقـذفهـم في غـمـرات جهـنـم) "أخـرجه الإمام أحـمد جـ3 ص 40 رقـم ( 11372)"
كـما ثـبت أن الجـنـة تـتهـيأ وتـتزيـن لأصحابها، حـتى إنها لـو اسـتـطاعـت لتقـربت إليهـم، كـما في قـول تعالى: (وأزلـفـت الجـنـة للـمـتـقـين غـير بعـيـد).
إذن، قـوله تعالى: (هـل مـن مـزيـد) معـناه: هـل من زيادة، وهـذا هـو أصـل هـذا التعـبير عـن هـذه الرغـبة ونسبتها إلى النار، أو نـسبة الـرؤية إليها في قـوله تعالى:(إذا رأتهـم من مـكان بعـيـد) ، ونسبة التغـيـظ والـزفـير في قـوله تعالى: (سـمعـوا لها تغـيـظا وزفـيرا)، ونسـبة الـكلام إليها، وسـؤالها وإجـابتها وغـير ذلك، كل هـذه أمـور غـيبية نـؤمـن بها ونصـدق ونتيـقـن، ولا يجـوز أن نشـك أو نـنـكـر أو نـرتاب.
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله ،،،،

ناصر بن محمد الزيدي