[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
في مقالة سابقة لصحيفة (الوطن) الغراء، بعنوان "العالم هجرات"، تمت ملاحظة الحركات السكانية الكبيرة، زيادة على آثارها، القصيرة والبعيدة المدى، في تدوير حركة العولمة التاريخية عبر القارات الرئيسة والأقاليم المختلفة.
في العصور القديمة، وأقصد حقبة ما قبل الميلاد، بقيت بلاد الرافدين هي "محج" الأقوام والقبائل والجماعات المتحركة، السامية خاصة. وعلة ذلك هي أن بلاد النهرين العظيمين دجلة والفرات، كانت منذ الأزل حديقة ما يسمى بـ"أراضي الكتاب المقدس" Bible Lands، بمعنى توجه الجميع ممن قطنوا التضاريس الطبيعية الى العراق. إلق نظرة سريعة على أية خريطة للعالم أو للإقليم الذي نحيا فيه، ولن تفلت من ملاحظة توجه الأقوام، جماعات وفرادى، إلى العراق: الخريطة ستبين أن هذا الوادي الخصيب، أي بلاد ما بين النهرين التوأمين، هو البقعة السهلية الخصبة والممخورة بالأنهار والأهوار من بقايا الطوفان، الأرض التي تصلح للعيش الآدمي ولتطور المجتمعات، من أطوار جمع القوت إلى أطوار إنتاج القوت، هذا هو سر تسمية جنوب بلاد النهرين (العراق) بـ"الحديقة" في جميع المصادر القديمة، التوراتية وسواها. وهي البلاد التي أطلق عليها العرب القادمين من الصحراء وصف "أرض السواد". لذا خدم تشجيع الحياة الاجتماعية بهذه البلاد في إحالتها إلى هدف للغزاة منذ أقدم العصور حتى اليوم (مرورًا بالغزو المغولي التتري، وبالغزو والاحتلال الأميركي/الغربي الأخير، 2003). وإذا كانت هذه البلاد الغنية قد شهدت ظهور أول قرية في التاريخ وأول عجلة وأول ساعة شمسية وأول تقويم....إلخ، فإنها قد شهدت كذلك أطماع الأقوام، المحيطة بها، في خيراتها.
بيد أن عالم الهجرات قد تغير الآن: فبينما كان المسلمون في العصر الوسيط يعدون أوروبا المثلجة، بلادًا للبرابرة الشماليين (لاحظ الفيلم الأميركي الشهير المعنون "المحارب الثالث عشر" حيث يحافظ السفير المسلم إلى أوروبا المتجمدة على نظرة دونية للأوروبيين الشقر).
بيد أن التاريخ يلقننا أن "بقاء الحال من المحال"، كما يقول المأثور من حكمة الأجداد، إذ تشهد البلدان التي كانت هدفًا للهجرات والإزاحات السكانية الكبيرة كسوريا وفلسطين والعراق ما يمكن أن نطلق عليه تعبير "الهجرة المعاكسة"، للأسف. وبدلًا عن مجيء هولاكو والتتر من آسيا الوسطى للاستيلاء على هذه البقاع الخصبة المعطاء في الشرق الأوسط، تنشط هجرة العراقيين والشاميين نحو أوروبا، متسببة في وضع كل واحدة من دول أوروبا على المحك: بين القبول بموجات النازحين واللاجئين: وتقبل أعبائهم الأولية والبعيدة المدى، من ناحية، وبين طردهم أو إيقاف استقبالهم. الطريف في هذا السياق هو أن هذه الهجرات اليوم لا تنطلق من صحارى بلاد العرب الجرداء، ولا من هضبات فارس الوعرة، ولا حتى من بين أودية جبال "زاجروس" أو مرتفعات الأناضول نحو العراق، وإنما هي تنطلق من البلدان الغنية والخصبة في الشرق الأوسط نحو أوروبا التي طالما وصفناها بألفاظ دونية من نوع "الإمبراطورية" و"الصليبية" و"الكافرة"، من بين سواها من النعوت التي دلت على استعجالنا إطلاق التقييمات المعيارية.
لم يعد العراق يبدو لهؤلاء المهاجرين اليوم قابلًا للحياة والازدهار، كما كان على عصور السومريين والكلدان والآشوريين، ولم تعد سوريا جنة الأمويين الذين ركبوا البحر نحو أوروبا من سواحلها. تجري اليوم عملية "عولمة" فظيعة، عملية خلط سكاني هائلة قد تؤدي إلى ما يتناقله العراقيون هذه الأيام من طرائف، على سبيل التندر، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، إذ يتنبأ بعضهم بظهور أجيال ألمانية ـ عراقية وأوروبية ـ سورية تحمل أسماءً من نوع لم يسبق للعالم أن سمع بها (شكرًا للمستشارة الألمانية ميركل).
للمرء أن يتحلى بالصبر حتى يأتي اليوم الذي تقابل فيه أفرادا، من ذوي البشرة الداكنة، يحملون أسماءً مركبة غريبة، من نوع "شنايدر عباس الدراجي" و"كاترين جربوع عليوي" و"شوماخر الزبيدي"، وهكذا دواليك.