[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
السؤال الذي لا بد أن تطرحه أوروبا الموحدة اليوم في اتحاد أوروبي هو أشبه بالخلافة الكاثوليكية هو: ما هي مسؤولية الغرب (أي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) في بلوغ المشرق الإسلامي هذه الدرجة من الفوضى واليأس؟ أليس الوضع في هذا المشرق كان أفضل قبل الحلول المرتجلة والأثيمة التي توصلت إليها قيادة حلف الناتو بعد عملية 11 سبتمبر 2001 الإرهابية والتي لم تكشف حقائقها إلى اليوم؟ هل حل الغرب معضلات الإرهاب منذ ذلك التاريخ الأسود؟ حين هب أحد الرؤساء المهووسين بما سماه هو نفسه (رسالتي الإنجيلية التي أوحاها الرب لي!)

يذكرنا المشهد المروع بالدراما الإغريقية والصورة التي حملتها وسائل الاتصال للعالم أصدق من آلاف المقالات والأشرطة تمثل الطفل السوري الملائكي إيلان الكردي ملقى على شاطئ تركي مهجور. أوروبا مجتاحة بأتم معاني الكلمة بمئات الآلاف، وغدا بملايين المواطنين الهاربين من جحيم الحرب الطويلة، ومن بؤس الجوع إلى جنة مؤقتة أو دائمة يتوفر فيها الأمن لهم ولأطفالهم، ويغامرون مهما كان الثمن، ملقين بأنفسهم في قوارب هشة هزيلة أو في مراكب السماسرة وتجار عذاب البشر، في رهان عجيب أي مواجهة الهلاك غرقى أو النجاة والفوز باليابسة على أي أرض أوروبية لا تزال تعيش في رغد وأمان رغم أن بعض حكوماتها ساهمت في صناعة المأساة، وتدخلت بجيوشها خدمة لمصالحها العاجلة، ضاربة عرض الحائط بمصائر شعوب العرب والمسلمين، متناسية أن هؤلاء البؤساء المتروكين لأقدارهم وفي مهب رياح الفوضى سيهبون يوما من فرط الجوع والخوف ليجتاحوا القارة التي هي أقرب إليهم ليس جغرافيا فقط، بل وثقافيا ولغويا وتاريخيا؛ لأنها كانت تستعمر أرضنا وتنهب خيراتنا وتفرض علينا ثقافتها، وتصدر لنا سقط متاعها، وتعلمنا كيف نتخلى عن ديننا ولغتنا وعريق تقاليدنا لنتحول إلى قرود ومسوخ ندافع عن (حداثتها وعلمانيتها)! هذا الأمر غفلت عنه أوروبا تحت حكومات يمينية بعضها عنصري صريح، وبعضها متعصب، يعتبر الإسلام إرهابا، والمسلمين مشاريع أحزمة ناسفة! الغريب أن هذا الاجتياح توقعه وتكهن به بل وأصدر فيه كتابا رجل مفكر فرنسي كان أستاذنا في جامعة السوربون، وهو أكبر مستشرف علم اجتماع وديمغرافيا اسمه (ألفريد سوفي) وهو الذي ابتكر مصطلح (العالم الثالث). هذا الكتاب القيم العجيب ظفرت به في ركن من أركان مكتبتي في بيتي بباريس هذه الأيام، وهو مكتوب عام 1985 وصدر عن دار النشر (دينولد) يمكن أن تقتنوه في ترجمته الإنجليزية (L'EUROPE SUBMERGEE,NORD-SUD DANS 30 ANS. ALFRED SAUVY) ((amazone.com. editions dunod paris
هذا الكتاب الصادر منذ ثلاثين سنة بالضبط عنوانه (أوروبا المجتاحة. الجنوب سوف يجتاح الشمال بعد ثلاثين عاما)، ويحلل أستاذنا نظريته تلك باستشراف علمي موثق وبالأرقام والتوقعات كيف سنبلغ سنة (2015)، ونشهد على موجات تسونامي بشرية قادمة من جنوب البحر الأبيض المتوسط تكتسح بقوة العدد وبمنطق الأمر الواقع سواحل أوروبا، باحثة عن بصيص أمل في أمن فقدته في بلدانها وعن لقمة عيش استحالت تحت وابل الإرهاب وهمجية الميليشيات. عجيب أن يستشرف أستاذنا (ألفريد سوفي) منذ 30 عاما ما يجري اليوم بعد 30 عاما بالضبط!! فها نحن نعيش اللحظة التاريخية التي نبه العالم لها/ وعزز استشرافه العلمي بالأرقام لا بالتنجيم قائلا في مقدمة كتابه ذاك أن تاريخ البشرية ما هو في نهاية الأمر سوى تعاقب هجرات كبرى أسبابها متشابهة، فإما طبيعية مثل حالات الجفاف والقحط أو الجوائح مثل الزلازل وانفجار البراكين والفيضانات والأعاصير وانتشار الأوبئة، وإما أسباب بشرية مثل الحروب والإبادات الجماعية. وإذا تأملنا في تاريخ نشأة الولايات المتحدة الأميركية نفسها فسندرك أن تاريخ هجرات عملاقة بدأت عام 1492 مع (كريستوف كولمب) وتواصلت مع إعلان ميثاق الولايات المتحدة مع (جورج واشنطن) عام 1797 بعد مغامرات الهجرات الأوروبية نحو القارة الجديدة. والحقيقة أن القارة لم تكن جديدة بل قام المهاجرون (غير الشرعيين) باستعمارها بعد أن أبادوا على مراحل سكانها الأصليين بدعوى أنهم (متوحشون! وبرابرة !!) فأطلق عليه القادمون من أوروبا نعت (الهنود الحمر)، وفي الواقع هم ليسوا لا هنودا ولا حمرا! بل أمة آمنة لديها تقاليدها وتتعايش مع بعضها شعوبا وقبائل بأديانها العريقة وثقافاتها الأصيلة، ولكنه منطق القوة والغطرسة والتعالي لدى الصليبيين البيض واعتبارهم الإجرامي بأن الأمم الأخرى المختلفة عنهم متوحشة، والأوروبيون الغزاة هم المتوحشون ركبوا البحر وتركوا أوروبا البائسة بحثا عن الأراضي العذراء الخصبة والثروات المنجمية والذهب، كما تصورهم لنا أفلام (الفار وست) من هوليود إلى اليوم. هذه الهجرات غير الشرعية دشنت عصرنا الحديث بأشكال العبودية، وعانت القارة الإفريقية قرونا بعد ذلك من القرصنة الأوروبية الصليبية، حيث أرست آلاف البواخر من أوروبا وأمريكا لتختطف قبائل إفريقية كاملة وتوثقها بالسلاسل، وتأخذ الأفارقة من رجال ونساء وأطفال كالحيوانات إلى حقول أميركا عبيدا، وتشهد على هذه الجرائم الفظيعة جزيرة (سان لويس) بالسنغال إلى اليوم!
هذا هو تاريخ الغرب الحقيقي الذي يأبى اليوم سنة 2015 أن يستقبل مهجرين (لا مهاجرين) دفعتهم الحروب الكيدية (لا الأهلية) إلى هجرة بيوتهم الآمنة وقراهم المطمئنة ومدنهم العامرة، وركوب البحر نحو مصير مجهول، ولكنه لا مناص منه إلا الموت تحت القنابل والصواريخ.
السؤال الذي لا بد أن تطرحه أوروبا الموحدة اليوم في اتحاد أوروبي هو أشبه بالخلافة الكاثوليكية هو: ما هي مسؤولية الغرب (أي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) في بلوغ المشرق الإسلامي هذه الدرجة من الفوضى واليأس؟ أليس الوضع في هذا المشرق كان أفضل قبل الحلول المرتجلة والأثيمة التي توصلت إليها قيادة حلف الناتو بعد عملية 11 سبتمبر 2001 الإرهابية والتي لم تكشف حقائقها إلى اليوم؟ هل حل الغرب معضلات الإرهاب منذ ذلك التاريخ الأسود؟ حين هب أحد الرؤساء المهووسين بما سماه هو نفسه (رسالتي الإنجيلية التي أوحاها الرب لي!) (من حديث للرئيس بوش الابن لقناة سي بي إس بث في الذكرى العاشرة لضرب البرجين 11 سبتمبر) فتم تدمير دولة أفغانستان عوض القضاء على طالبان (800 ألف ضحية مدنية)، ثم تدمير العراق بأسره عوض القضاء على نظام صدام حسين!!! (مليون ضحية)، وفي المقابل أطلق الغرب بغباء وسوء نية وإضمار شر أيدي قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي لإنهاء الوجود الفلسطيني من فلسطين بمسلميه ومسيحييه! وآخر عملية إبادة تذرعت بمقتل ثلاثة شبان يهود مستوطنين وارتكب الطيران الإسرائيلي مجزرة حقيقية في حق شعب قطاع غزة من أبرياء وأطفال تحت أنظار الغرب الذي لا يزال يحمل عقدة الذنب؛ لأنه هو الذي أباد اليهود فيما يسمى المحرقة! وتحت أنظار بعض العرب الغافلين فتم هنا أيضا تدليس التاريخ وطمس الحقائق! اليوم تهب مئات الآلاف من سوريا والعراق وليبيا وبعض البلدان الإفريقية لتجتاح سواحل الشمال المرفه الغافل والعنصري جزئيا، فلم يتفق أعضاء الاتحاد الأوروبي على حل مشترك؛ لأن من بينهم من شيد جدرانا مكهربة، ومن بينهم من استعد لقبول مئات الآلاف من البؤساء المشردين في الأرض والبحر ليسد بهم مواطن شغل شاق أو كسب تخصصات نادرة أو لإعمار البلاد بعد هرم وشيخوخة سكانها. إننا أمام عصر جديد ربما نسميه عصر الهجرات الكبرى التي تصنع التاريخ وتغير ثوابته وتفتح آفاقا مبتكرة من الحضارة! لا يعلم غيبها إلا الله.