هناك عدة قضايا تهز المجتمع الأميركي وتخلخله من ثوابته التى يدعيها من رفض العنف ونبذ التعصب والعنصرية وما الى ذلك من الشعارات الرنانة، تلك القضايا والحوادث ليست فردية، بل هي جزء من المجتمع الأميركي.
التفكك الأسري والمجتمعي، وما يخلفه من تشريد للأطفال، إحدى تلك القضايا التى غيرت وجه الأسرة في أميركا بشكل جذري خلال السنوات الخمسين الماضية، وكما يقول عالم الاجتماع أندرو تشيرلين، في احد كتبه الذي تناول حالة الزواج والأسرة في أميركا الحالية "الشيء المميز (سلبًا) بالنسبة للأسر الأميركية المعاصرة، مقارنة بمثيلاتها في الدول الأخرى، هو كثرة الزواج والطلاق، وكثرة العلاقات التي لا تدوم طويلا، ما تسبب في اضطراب كبير داخل الحياة الأسرية الأميركية، وحرفٍ لمسارها. حتى أصبحت أميركا أكثر الدول الغربية التي يُنشِىء أهلها علاقات شخصية متعددة.
فساد الشرطة الاميركية، قضية اخرى تمكنت ايضا من هز الولايات المتحدة بقوة، حيث تزايدت مؤخرا التقارير والتحقيقات الخاصة بقضايا فساد رجال الشرطة الاميركيين، من حوادث القتل العمد والابتزاز والعنصرية، وبرغم دعوات الحكومة الأميركية، للشرطة أن تصبح عين وأذن الأمن الداخلي على الطرق السريعة وتشجيع الضباط والقوات الحكومية على العمل بقوة أكبر فى البحث عن المشبوهين والمخدرات وغيرها من الممنوعات، الا انها كان لها أثر آخر لم يظهر بشكل كبير للعيان، وهو انتشار عدوانية الشرطة مما حفزها لارتكاب جرائم القتل أو الاستيلاء على مئات الملايين من الدولارات نقدا من سائقي السيارات وآخرين لم يتم اتهامهم بأي جريمة.
هذه القضايا وأخرى لم تمر مرور الكرام على مدينة المشاهير وصناعة الافلام هوليوود، التى عالج العاملون بها، الكثير من تلك القضايا والجرائم وتناولوه في عشرات من شرائطهم العالمية. فأفلام الجريمة كانت دوما اختيارا أساسيا للمخرجين والمنتجين الباحثين عن نوع جماهيري من السينما، قابل للتنفيذ بميزانيات متواضعة، ويعود لتلك النوعية، الفضل في إطلاق عشرات المواهب الإخراجية.
السيناريست والمخرج الشاب الاميركي جون واتس، تمكن من صنع تركيبته الخاصة التى تحوي خليطا من القضيتين اعلاه وعالجهما ليكونا محور عمله الروائي الثالث.
سيارة الشرطي (Cop Car) : هو فيلم إثارة وجريمة، من انتاج أميركي، يمكن اعتباره ضمن أفضل النماذج مؤخرا لأفلام الجريمة محدودة التكلفة، عظيمة الأفكار في آن واحد، وسبق أن شاهدنا أفلامًا استطاعت تحقيق المعادلة الصعبة، من خلال تقديم أفلام تجذب المشاهدين بأقل تكلفة ممكنة مثل (Buried) الذي يجسد محاولة رجل سجين أحد القبور الهرب من محبسه. كما لا يمكن عند الحديث عن الأفلام منخفضة الميزانية نسيان فيلم (Desperado)، الذي جسد فيه النجم العالمي أنطونيو بانديراس قصة أحد الرجال الذين يحاولون الانتقام من قتلة صديقته.
وبرغم تواضع ميزانية سيارة الشرطي، الا انه لم يمنع مخرجه من تصوير مشاهد نهارية جيدة جدا للحقول والطرق. نلاحظ هذا في مشهد بسيط لم يحتاج فيه إلا سيارة متوقفة وقطعة حبل وزاوية تصوير نموذجية، حيث ينجح في صناعة مقطع موتر ومشوق جدا، يفوق في براعته مشاهد من أفلام هوليوود الضخمة.
وبالمناسبة تم الإعلان عن اسم جون واتس كمخرج مرتقب لجزء جديد من سلسلة افلام (Spider man)، لا نعلم تحديدًا ما فى جعبة واتس من أحداث عندما تقع تحت يديه ميزانية غير محدودة كميزانية سبايدر مان؛ حيث كل شيء متاح وممكن، مع فريق من خبراء التقنيات الحديثة، لكن ما قدمه المخرج الاميركي في سيارة الشرطي ينبىء بأننا أمام مخرج قادر على استغلال إمكانيات أفلامه للحد الأقصي، لكن لا يمكن نسيان بعض التفاصيل الصغيرة التي وقع فيها واتس في الخطأ غير المتعمد، حيث تدور أحداث الفيلم في ولاية تكساس، بينما تعود لوحة سيارة الشرطة لولاية كولورادو الأميركية.
الفيلم من بطولة النجم المتألق كيفين بيكون، صاحب الأداء المتميز، والخبرة الهائلة بأفلام هوليوود، وهو أيضًا صاحب تاريخ حافل من الأفلام والمشاركات الهامة والمميزة مثل مشاركته في فيلم الفضاء المثير (Apollo 13)، ومن الغريب فعلا أنه لم يتحول نهائيا إلى نجم شباك. يقوم بيكون بدور الشريف الفاسد (ميتش كريتزر)، ويشاركه البطولة الطفلان جيمس فريدسون و هايز ويلفورد الذان يعدان محور الفيلم، وكلاهما يقدم أداء جيدا ومقنعا، حيث يقومان بدور (ترافيس) و(هاريسون)، وهما طفلان يمثلان نمطًا معروفًا من الأطفال الملاعين الذين لا يتركون حجرًا دون أن يقلبوه، ولا يسلم من أفعالهم الشيطانية جماد أو إنسان.
...........
أحداث

بعيدا عن بيتهما بـ 50 ميلا، ترافيس وهاريسون طفلان في العاشرة من عمرهما يقابلان أثناء اللعب والتسكع، سيارة شرطة خالية متروكة في منطقة ريفية معزولة، ومحملة بما لذ وطاب من أسلحة نارية حقيقية جاهزة للقتل؟!.
تسلسل التحديات الطفولية بينهما يبدأ بفتح باب السيارة، ويتواصل لمرحلة إدارة المحرك (الاوتوماتيكي) والتحرك بها، باعتبارها الآن سيارتهما.
بصرخات هيستيرية (هذه سيارة الشرطة خاصتنا..)، وفرحة غارمة ترتسم على وجهيهما بعد الحصول على لعبتهما الكبيرة التى تتناسب مع طبيعتهما الشيطانية المغامِرة، تبدأ مغامرتهما العفوية المقرونة ببراءة الاطفال، وفي تلك الاثناء وبـ(فلاش باك) سريع مدته نحو 10 دقائق فقط ، نلتقي بالشريف الفاسد ميتش كريتزر، الذي يبدو وأنه وقع في شر أعماله، عندما يعود من العراء بعد دفن جثة، ليجد سيارته التي وضع في صندوقها الخلفي رجلا مجهولا، ودلائل عديدة أخرى تكفى لإدانته، غير موجودة. فتصبح لديه مهمه سرية، وهي استعادة سيارته ممن سرقها، دون إبلاغ زملائه في الشرطة أي شىء عن سرقتها.

.................

لهو يقابله كابوس

تسلسل أحداث الشريط يمضي في وتيرة متصاعدة ليصل إلى ذروته بانتهائه.. وعلى مدى مدته البالغة ساعة ونصف تقريبا نسعد ونلهو مع الطفلين داخل لعبتهما الجديدة، بينما نستشعر الخطر بعدها بدقائق، عندما يقرر ترافيس وهاريسون الانطلاق بالسيارة على الطريق المفتوح.
في المقابل نعاني من كابوس بشع مع الشريف حيث أصبح مستقبله على المحك، ولا يفكر حاليًا سوى في كيفية استعادة سيارته المسروقة.
الشىء الجيد أن المخرج تمكن من الحفاظ طوال تلك الأحداث على قدر عالٍ من الواقعية، بعيدا عن مبالغات أفلام الأكشن والجريمة المعتادة، تجعل أزمة الطفلين أكثر صدقا ورعبا.
مسلح بغضبه، وشاحنة عملاقة، وجهاز لاسلكي متصل بموجة الشرطة، يقرر كريتزر مطاردة الطفلين اللذين ينطلقان بالسيارة بأقصي سرعة، عقب فضح أمرهما بواسطة امرأة، رصدتهما أعينها خلال طريق عودتها للمنزل بسيارتها، فتبلغ الشرطة عن هواجسها، فلا يجد كريتزر سوى تضليل زملائه في محاولة منه للوصول لسيارته قبلهم للتستر على جريمته.
تتعقد الأحداث حينما ينجح الطفلان في فتح الصندوق الخلفي للسيارة، ليجدا رجلاً مكبلاً يرقد أمامهما، يبدو أنه أحد أفراد العصابة التى يعمل معها الشريف، يتمكن بعدها الرجل من السيطرة على السيارة، والطفلين بعد نجاحه في إقناعهما بحل وثاقه، ويبدأ في نصب كمين لكريتزر القادم بسرعة البرق على الطريق. يتبادل الرجل والشريف اطلاق النار، ويصاب الاخير، فيما يسقط الطفل ترافيس، ضحية لإهمال اسرته وفساد مجتمعه.
Cop Car لا يصل نهائيا إلى حافة العظمة أو الأهمية، لكن فيه ما يكفي فعلا من الوقود ليصل بمخرجه سريعا الى كبار منتجي هوليوود. فهو يعطي درسا مجانيا في كيفية صناعة فيلم جريمة مشوق بأقل التكاليف الممكنة، مع أداء متزن كالعادة من كيفين بيكون.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]