استدعاه الرئيس التنفيذي للشركة واستقبله بابتسامة عريضة وحياه بلغة مهذبة جدا، ثم دعاه للجلوس وطلب له كأسا من الشاي وخاطبه بنبرة صوت مفعم بالاحترام بحضور مساعد الرئيس التنفيذي وسكرتيرته وقال له: مبروك! ثم سكت قليلا. ثم أردف قائلا: لقد قررنا تعيينك مديرا لإحدى إدارات الشركة، وانتظر أن يسمع ردة فعله، لكن المهندس سالم نظر إلى الرئيس التنفيذي وشكره ثم صمت مُفسحا المجال للرئيس التنفيذي الذي أطنب في الحديث عن الدور الجديد للمهندس سالم في الوظيفة المترشح لها. وأكد له أن إدارة الشركة تثق به تمام الثقة وأنه أهل لهذا المركز الجديد. وسوف يتيح له هذا المنصب تقديم خدمات أكثر للمجتمع والشركة. وعندما انتهى الرئيس التنفيذي من كلامه بحضور مساعده والمنسقة التنفيذية للشركة، شكر المهندس سالم الإدارة العليا على حسن ظنها فيه، لكنه اعتذر عن قبول المنصب، فاستغرب الرئيس التنفيذي رد سالم السريع وعدم قبوله لذلك المسمى الذي يسيل له لعاب زملائه، لكن سالم شكره مرة أخرى وبرر اعتذاره بأنه يشعر بالمتعة في عمله كمهندس ويتمتع برضا وظيفي كبير، ولا تزال عنده أفكار إبداعية لا تقل أهمية للشركة عن ترقيته إلى وظيفة أعلى قد تعيق تفكيره وتقيده في الروتين اليومي، وطمأن الرئيس التنفيذي أن في الشركة كوادر تتمتع بالمؤهلات العلمية والأهلية والمهارات التي بلا شك يمكن أن تعطي بإبداع في المنصب الجديد. فاستغرب الرئيس التنفيذي هذا الموقف من شخص يرى فيه الكفاءة ويعتقد فيه الثقة ويلمس فيه الجدارة العلمية والمهنية. حاول أن يُلح عليه قائلا: لكن هذه الترقية ستخدمك على المدى القريب والبعيد وهي فرصة جديدة لك وتحد يمكن أن ينقلك إلى آفاق أرحب. فرد سالم بأن كل ذلك لا يعنيه كثيرا، فهو منسجم في عمله ولا زالت في عقله أفكار كثيرة للعمل والإبداع، وأنه لا يفكر مطلقا بوظيفة أعلى قبل أن يفرغ عقله من أفكار كثيرة يراها مفيدة لعمله ومجتمعه. لكن الرئيس التنفيذي الذي لم يقبل مبررات سالم قال مرة أخرى: سوف تكون الوظيفة الجديدة إضافة رائعة إلى سيرتك الذاتية! فتساءل سالم وماذا يعني ذلك؟ هذا لا يهمني كثيرا، فالألقاب جميلة ومبهجة للذين يحبونها، لكنني لا أحتاج إلى ألقاب وظيفية لكي أكبر في عين نفسي.
شكر المهندس سالم الرئيس التنفيذي ثم خرج مبتسما وكأن شيئا لم يحدث. يبدو أن (الإيجو) لدى المهندس سالم تستقر في مستوى طبيعي وسوي، وهو يعرف تماما ماذا يريد وماذا يمكنه أن يعطي لعمله ولمجتمعه ولنفسه. يذكرني هذا الموقف بمعلم سعودي ابتدائي ناجح قرأت عنه منذ سنوات، استمر مدة ثلاثين عاما يعمل في مهنته كمعلم ابتدائي بتجديد وإبداع وتجرد، وعندما فكرت وزارة التربية والتعليم في السعودية أن تكرمه بترقيته إلى وظيفة أعلى، اعتذر بقوة وأكد للمسؤولين في الوزارة بأن ترقيته مستمرة في عمله، فهو يكتشف أساليب جديدة تجعل تلاميذ الابتدائي يحبونه ويحبون التعلم والتعليم. وأصر على البقاء في وظيفته.
منذ أيام حضرت اجتماعا لإحدى اللجان المهنية في مؤسسة من المؤسسات، وكان رئيس المؤسسة يحمل رتبة علمية كبيرة ويتميز بماض مهني لامع جدا في أكثر من بلد، وفوجئ الجميع أنه لم يجلس في صدارة طاولة الاجتماعات، بل جلس بين المجتمعين مفسحا المجال لعضو آخر أن يجلس في مقعده، وعندما حانت لحظة تقديم الضيافة للمجتمعين ترك كل الإتيكيت الخادع وقام بنفسه وطلب من العامل أن يقدم الواجب.
هناك أشخاص أسوياء يعيشون حياتهم متصالحين مع أنفسهم، ولا يشترطون الحصول على ألقاب أو نياشين أو مراسيم تصدر بشأنهم؛ لكي يقدموا الأفضل لمجتمعاتهم وللآخرين. هؤلاء يسيرون على خطى الأنبياء والصالحين الذين استطاعوا ترويض (الأنا) ووضعها في مكان لا تتسلط من خلاله على الذات. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم خير قدوة في التصالح مع الأنا والتمتع بالسلام الداخلي، فكان لا يغضب لنفسه ولا ينتقم ولا يعيش لنفسه قط، كان يعيش بكل قواه ومواهبه وكمالاته النفسية والروحية من أجل أن يكون رحمة للآخرين؛ لكي يحرر البشرية من طاغوت الأنانية والأثرة، وهو صلى الله عليه وسلم يسير على خطى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي بلغ به مستوى الانتصار على ( الإيجو) أن هم ّبذبح ابنه الوحيد امتثالا لأوامر الله سبحانه وتعالى.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية