منذ بزوغ فجر النهضة المباركة عام 1970م سارت نهضتنا التعليمية والعلمية في مسارها المتنامي حسبما أراد لها قائد مسيرة النهضة العمانية المعاصرة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ آخذًا بكل معيار من معايير التقدم العلمي في إطار من الأصالة واحترام التراث الوطني، سواء في الشكل أو المضمون؛ بدءًا بالإنسان ثم البنيان، ولا يزال الاهتمام بالتعليم يمثل أولوية الأولويات في فكر جلالته ـ أبقاه الله ـ لما للتعليم من دور كبير في عملية البناء الإنساني ومن ثم التنمية الشاملة والمستدامة. فالأمم التي وضعت بصمتها في سجل الحضارة والعلوم بمختلف ألوانها وتخصصاتها وأغنت الإنسانية بمبتكراتها ومخترعاتها، انطلقت من نجاحها في اهتمامها بالعلم والعلماء والباحثين والمبدعين في مختلف المجالات الذين تترجم عصارات عقولهم إلى تطور وتنمية، ووضع حلول لكل ما يواجه الحضارة الإنسانية من عقبات، ودائمًا ينظر إلى الإبداع العلمي والفكري والثقافي والمعرفي على أنه ثمرة عملية مشتركة بين العناصر الثلاثة للعملية التعليمية وهي: الطالب والمعلم والمنهج.
لقد بات ينظر إلى نجاح التعليم في تلبية احتياجات التنمية وسوق العمل على أنه المقياس الصحيح الذي تسند صحتَه حركةُ الاستيعاب للمخرجات وتطور التنمية، فالتعليم المرتبط بفرص العمل هو السياسة السائدة حاليًّا على مستوى العالم في السياسات التعليمية والاستراتيجية للتعليم الجامعي، نظرًا لأن سوق العمل هو الارتباط الحقيقي بين التخصص العلمي وحياة البشر.
ولذلك فإن من الأهمية بمكان أن تنطلق مقاييس نجاح التعليم من ملامسته الواقع وتحقيقه الأهداف المنشودة من عدمه، من خلال مدى مواكبته للاحتياجات الفعلية في سوق العملية، وتلبيته لحاجة التنمية في البلاد، وإذا لم يكن قادرًا على التعاطي مع ذلك، فإن الحاجة إلى إجراء مراجعات شاملة ودراسات معمقة تكون ماسة وذلك لتقييم التعليم وضمان جودته من حيث العناصر الثلاثة وهي (المعلم والمنهج والطالب).
إن الاهتمام بالمعلم إلى جانب جعل المناهج قوية له الأثر الأكبر في رفع المستوى العلمي والتعليمي، وتلبية احتياجات المدارس من المعلمين الأكْفاء والحرص على عدم حصول أي عجز، سواء في الكادر التدريسي أو في المنهج الدراسي، إذ إن هذا الاهتمام والحرص يؤديان بدورهما إلى تحريك الفاعلية داخل المدرسة والتي تعاني من غيابها العديد من مدارس بلادنا، وكون أن المدرسة أهم مجتمع يحيط بالطالب يبرز فيه مواهبه وتنمو فيه، وما دام هناك ترابط مطرد بين الاهتمام بالمعلم والطلاب باعتبارهم الثروة الحقيقية للبلاد، فإن تحرير المعلم من القيود والشكليات واستغلال طاقاته ومهاراته في العملية التعليمية بعيدًا عن ملء حقائب الطلاب وملفاتهم بالأوراق التي تجانب المصداقية في أغلبها، وإعطاء المعلم الدافعية والحوافز المشجعة إلى جانب قوة المناهج التي تجبر المعلم على البحث والفهم والابتكار للطرق والأساليب التي توصل المعلومة للطلاب، فإن كل ذلك ينعكس بصورة إيجابية على مستوى الطلاب الذين يشعرون بالجدية والدافعية، ما يدفعهم إلى استغلال أوقات فراغهم فيما يخص دراستهم بدل قضائها في المجمعات التجارية والسهر طوال الليل من أجل متابعة الدوريات الأوروبية التي كانت آثار ذلك ظاهرة على الطلاب في تقصيرهم في أداء واجباتهم وعدم التحضير اليومي والمسبق، والنوم والكسل داخل الصف.
ومن المنظور الوطني والاستثماري وفي مقاييس التطور والتقدم، يعد الطلاب الأمل الواعد للوطن، فهم السواعد والعقول التي ستدير عجلة التنمية في مراحلها القادمة، ومتى كان هؤلاء الطلاب هم المخرجات التعليمية المتسلحة بالعلم والمعرفة والتأهيل والتدريب المرتبطة تخصصاتهم بسوق العمل، كان التعليم في مختلف مستوياته قادرًا على الإجابة عن الأسئلة الملحة التي يطرحها المجتمع حول الغاية من التعليم وأهدافه وتخصصاته ومساقاته ومؤسساته المختلفة، ومدى انسجام ما يقدم من علوم مع مبادئ المجتمع وقيمه وعاداته، ومراعاته متطلبات الحاضر واستشرافه آفاق المستقبل ومواكبته العصرنة مع عدم الإخلال بالثوابت الوطنية والدينية والمجتمعية الراسخة.
وإقرار مجلس التعليم في اجتماعه أمس إنشاء مركز تابع لوزارة التربية والتعليم يعنى بتقييم الأداء المدرسي، وتكليفها بإعداد الدراسات التفصيلية ورفعها للمجلس لاتخاذ المناسب بشأنها، خطوة جيدة تعيد رسم المسارات الصحيحة التي يجب أن تسير عليها مسيرة التعليم في السلطنة، وتعبر وعي ورؤية ومسؤولية، من أجل تصحيح ما أصاب هذه المسيرة من منعرجات، بشرط أن تتكاتف الجهود، وأن يكون المكلفون بعملية التقييم وإعداد الدراسات من ذوي الخبرة والكفايات والكفاءات.