[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]
دلّت الأحداث الأخيرة المتسارعة في مدينة القدس وباحات الأقصى واقتحام مجموعات المستوطنين لحرمه والاعتداء على الناس وحرق بعض الأماكن من زوايا المسجد، أن مدينة القدس والأقصى تحت النار، وعنوانًا ساخنًا في مسار الصراع مع الاحتلال وفي سياق العملية السياسية التفاوضية على مسارها الفلسطيني الإسرائيلي والغارقة في سباتٍ عميق.
فالهجمة "الإسرائيلية الصهيونية" الجديدة على القدس والمسجد الأقصى ليست مفاجئة، وليست مقطوعة عن جذورها وعن مسلسل التهويد الذي ابتلع المدينة المقدسة وشرد أبناءها ومواطنيها من العرب المسلمين والمسيحيين على حد سواء. فالمخططات والمؤامرات الصهيونية لتهويد القدس والأقصى بالذات مستمرة منذ ما يزيد على سبعين عامًا، أي ما قبل قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وقد زاد في الفترات الأخيرة منسوب عمليات تهويد المدينة وما يرافقها من عمليات حفر وتنقيب مستمرة تحت المسجد الأقصى والذي تحوّل اسمه من المسجد الأقصى إلى المسجد المُعلق الذي بات محمولًا على أعمدة تكاد لم تَعُد تحتمل جدرانه السميكة.
لقد عملت سلطات الاحتلال طوال العقود الأربعة الماضية من الاحتلال الكامل لمدينة القدس على صناعة الوقائع على الأرض واستباق كل شيء، عَبرَ إحداث التغيير الديمغرافي للانتقال بالمدينة الموحدة بجزئيها الشرقي والغربي إلى مدينة يهودية صافية تقريبًا، بحيث يُصبح الوجود العربي الإسلامي والمسيحي فيها محدودًا ودون أي تأثير مُهم على صعيد الطابع العام للمدينة وعلى صعيد بنيتها الديمغرافية (مثلًا، في الفترة ما بين 1967- 2010 سحبت سلطات الاحتلال أكثر من 14 ألف بطاقة هوية من المقدسيين شملت أكثر من 20% من الأسر المقدسية. وفي الفترة ما بين 2006- 2008 تم سحب 50% من مجموع ما سحب من بطاقات حتى 2010)، فضلًا عن إستهداف الأرض بعمليات المصادرة والتهويد، وقد أدت تلك العمليات التهويدية الإجلائية لابتلاع المزيد من أراضي المدينة وما حولها من أبنائها المقدسيين الذين لم يتبقَّ بيدهم سوى (11%) تقريبًا من مساحة القدس الشرقية.
ونتيجة لعمليات التهويد المتواصلة، فإن رموز التهويد باتت تطوق المسجد الأقصى المبارك من جهاته الأربع بأكثر من مائة كنيس يهودي، خاصة داخل البلدة القديمة بالقدس، وبالقرب من أسوار القدس القديمة، في وقت توجد فيه عدة كنس يهودية في الأنفاق التي حفرت تحت المسجد الأقصى المبارك، وهناك عشرات الكنس، بدأت تمتد وتزداد في غرب المسجد الأقصى المبارك، وأصبحت جميعها تُشكّلُ سلسلة على شكل دائري حول المسجد الأقصى من كل الجهات، وبدأت تزداد وتقترب من المسجد الأقصى المبارك، وتُشكِّلُ أجواء استيطانية يهودية، خانقة حول المسجد، وقد بنيت على عقارات وأوقاف إسلامية ومساجد استولت عليها المؤسسة "الإسرائيلية" بعد الاحتلال الكامل لمدينة القدس.
كما عَمِلت سلطات الاحتلال فور الاحتلال الكامل للمدينة على توسيع حدودها الإدارية إلى نطاق ما بات يعرف بـ(متروبلين) القدس الكبرى التي أمسَت مساحتها تساوي ربع مساحة الضفة الغربية تقريبًا والبالغة نحو (5888) كيلومترا مربعا، ولتصبح مدينة القدس من أكبر مدن العالم على الإطلاق من حيث المساحة الإدارية، وفي هذا يَكمُن المعنى العميق للسلوك "الإسرائيلي" الصهيوني تجاه المدينة ومستقبلها، ومستقبل عملية التسوية التي دخلت في نفقٍ مسدود منذ سنوات طويلة وقد أصطدمت بالجدار السميك من الاستعصاءات الإسرائيلية.
المُشكلة هنا، أن الخطاب السياسي العربي والإسلامي تجاه القدس كان وما زال على حاله منذ الاحتلال الكامل للمدينة بجزئيها الشرقي والغربي عام 1967، مُشبعًا إلى حدود التخمة بالجمل الإنشائية، ومليئًا بالمناشدات الأخلاقية والوجدانية لعموم الهيئات الدولية من أجل نصرة القدس وشعبها ومواطنيها، في وقت لم تَعُد فيه تلك المناشدات تُسمن أوتغني عن جوع، وفي وقت لم يَعُد فيه العالم، خصوصًا بعض الدول المتحكمة بالقرار الأممي تريد أن تسمع المناشدات والنداءات أو تلتزم بالمواقف الأخلاقية، بل تُريد دومًا أن تسمع لغة المصالح. فهي لاتأبه لميزان الأخلاق أو لعدالة القضايا المطروحة بمقدار ما تنشّد نحو خيارات لها علاقة بمصالحها واستراتيجياتها في المنطقة العربية وعموم الشرق الأوسط ومنها فلسطين وقضيتها.
ومنذ تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي في الرباط بالمملكة المغربية في أيلول/سبتمبر من العام 1969، إثر الحريق الإجرامي الذي تَعرَض له المسجد الأقصى على يد عناصر فاشية صهيونية في مدينة القدس المحتلة في العام ذاته. فإن الأمور بقيت على حالها لجهة التحرك العملي المطلوب من أجل إنقاذ القدس والأقصى، بالرغم من أن قادة العالم الإسلامي المجتمعون في الرباط عام 1969 إبان تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي كانوا قد أكدوا وحدتهم وجمع كلمتهم واستنفار القوة اللازمة لمواجهة ما يجري بحق مدينة القدس. وقد تضمن ميثاق المنظمة عهدا بالسعي بكل الوسائل لتحرير القدس الشريف من الاحتلال الصهيوني، وجرى بعد ذلك أن اتسعت مهمات منظمة المؤتمر الإسلامي لجهة متابعة قضايا العالم الإسلامي بشكل عام .
ولكن ذلك الاستنفار الذي أعلنته منظمة المؤتمر الإسلامي بعيد تأسيسها وحتى الآن، لم يمنع سلطات الاحتلال من وقف بناء حجر واحد على أرض المدينة في سياق عملية التهويد المتواصلة لكامل الجزئي الشرقي المحتل منها. كما لم يمنع سلطات الاحتلال من وقف حفر الأنفاق تحت ومن حول المسجد الأقصى والذي باتت جدرانه وأعمدته وأسقفه تهتز وهي معرضة في كل لحظة للسقوط على المصلين.
وحتى لا نجلد أنفسنا، وحتى لا نبالغ في نقد الأداء العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي تجاه القدس وأهلها، فإن المنظمة لعبت دورًا إيجابيًّا بشكل عام في إبقاء قضية القدس حية ودافئة وحاضرة في قلوب كل المؤمنين من مسلمين ومسيحيين على امتداد المعمورة، كما لعبت دورًا مهمًّا على صعيد الحراك السياسي الدولي العام من أجل نصرة القدس وأهلها، وقدمت العديد من المشاريع التي تم انجازها لصالح المدينة وصمود أهلها. ولكن العتب الكبير ليس على المنظمة بحد ذاتها بمقدار ما هو عتب على الدول العربية والإسلامية التي كان وما زال عليها واجب التحرك بشكل أكبر وأوسع، وبمقدورها تفعيل نشاط ودور المنظمة وتقديم كل المستلزمات المادية لتمكين المنظمة من الإرتقاء بدورها بشكل أنجع.