النصوص تكتب شعرا او ادبا وتكتب ايضا لونا وشكلا ومادة لدى التشكيلي، هناك تجارب تخاطب في المتلقي بصره وهناك اخرى لا يمكن سوى ان تستوطن دواخلنا وتخاطب بصيرتنا سواء بالألوان، بالأبيض والاسود او بالخامات فهي تتغلغل داخل كيان القارئ لتجبر حواسه على التفاعل.
علي رضا سعيد فنان تشكيلي عراقي مقيم بتونس منذ سنة 1993 ينقل لنا دواخله وتأثره بمحيطه الغائب الذي يسكنه (العراق) وبمحيطه الحاضر الذي يتفاعل معه (تونس) وبين الحضور والغياب تتعاشر الافكار ويولد المعنى فيثمر اعمالا فنية ناطقة بأحاسيس جمالية على محامل مختلفة وبمواد هجينة تلتقي لديه لتصنع ربيعها التشكيلي وتوجد منطقها ونهجها الذي يميزها عن سواها.
تشظي الكائن وتمزقه في وجود يحس بنفسه منتميا اليه بالإكراه وفي نفس الوقت يتوق الى وجود اخر اقل اغترابا من حيث مأساة الكائن الناجمة عن تأثير الحروب وانعدام الامن والاستقرار كلها هواجس تسكن هذا الفنان الحساس، ولأن الاثر الفني هو نتاج لجملة من التأثيرات البصرية والمادية وجملة من التراكمات الحسية النابعة من ذات الفنان فإنه يكون بالضرورة لغة الفنان التواصلية مع العالم مع المتلقي ومع نفسه بما هو اكثر الكائنات حساسية وبما ان الاثر سبيله الوحيد للبوح والافصاح.
المتأمل لأعمال الفنان علي رضا سعيد من فترات مختلفة وسمت تجربته المميزة مع الابيض والاسود ثم بالألوان وصولا الى استعمال خامات جديدة يلاحظ انها تالف واضح بين فكر الفنان ومواده، اعمال ترميزية بالأساس حيث يستقي رموزه الادمية او المعمارية او التكنولوجية... من نسق الحياة الذي يحيط به وينتمي اليه ويتعامل معه، فاهتم في اغلب اعماله بالمضمون وليس بالشكل في كماله واتقانه، استعار شخوصه في وضعيات مختلفة من حيث الشكل ومن حيث النفسية في مرحلة بالأبيض والاسود للتعبير عن معاناة البشرية مع الحروب باستخدامه احبار واكريليك على ورق، في محاولة لإخراج دواخل الذات وبواطنها، حملت اعماله مضامين فكرية تحتاج من القارئ لها ترجمة بليغة لإدراك الهدف من وراء رؤيته.
العلامات الفنية والاشكال والالوان في لوحات علي رضا سعيد هي رموز تتفاعل وتتضافر لتكثيف الدلالة حيث يقول هيغل في هذا الخصوص ان الرمز هو شيء مادي محسوس يرمز ويوحي بشيء مجرد.
فمثلا تواجد رقائق الحاسوب في مجموعة من لوحاته هي رموز وعلامات اتصال بين الباث والمتقبل بماهي رموز متغيرة حسب رؤية الفنان للفترة الزمنية التي يعيش فيها وهو مطالب ان صحة العبارة بوضعها وضع تساؤل، حيث ميزت التطورات التقنية والتكنولوجية هذا العصر السريع، ومثل الحاسوب اداة فعالة وذات اولوية ليصبح العالم من خلاله قرية صغيرة وقد استعار الفنان هنا احدى مكونات هذا النموذج لينقله الى سطح لوحاته ليخاطب من خلاله فكر المتلقي وله من خلال هذه الاستعارة ابعادا ترميزية حيث يقول اوسكار وايلد في هذا السياق كل فن هو بالأساس فضاء من الرموز والرمز هنا حضر جزءا ليعبر عن كلية الفكرة، وهذا الجزء يحيلنا الى شبكة من العلاقات التي تربط الشكل بالمضمون الدلالي الرمزي، ومن هنا يقوم الفنان بإبداع اشكال قابلة للإدراك الحسي بماهي مألوفة لعين المتلقي وفي المقابل في فضائها الجديد ستدرك بقراءة اخرى ويصبح الاثر لغة من الرموز، بين المرئي واللامرئي تكمن الجدلية مع مفهوم الايحاء وتحميله معاني متعددة.

* ابيض واسود: تضارب الكائن بين تناقضات الوجود
اعمال الفنان بالأسود والابيض باستخدام تقنية الحبر والاكريليك على ورق تترجم بوضوح بركان قائم داخل ذات الفنان نشيط ومتوهج الى درجة الغليان ترجم على اوراقه ومحامله حركية لا تنتهي.
شخوص تستغيث وسط غيوم الاحداث المتصاعدة في قلب المعترك، تصارع ارواح واجساد يصعده الفنان بضربات يده بالأسود والابيض بدرجاتهما المختلفة، تكشف بوضوح مأساة الكائن بكل معانيها منها ماهو ظاهر ومنها ما هو مستتر ومتواري عن عين الباحث القارئة لتفاصيل الاعمال، من خلال طبقات العمل المتراكبة احاول جاهدة تأويل ماهو غير مرئي للكشف عن الروابط الخفية التي تمثل طريقة اخرى للإفصاح، من هنا يمكن ان نقول ان هناك دلالات واضحة مباشرة وهي تمثل المعطيات الظاهرة باعتبارها سيرورة في الفعل وفي التلقي ودلالة اخرى ضمنية يستطيع الباحث ان يستشفها، هي بمثابة متنفس من كل الاكراهات التي يوجدها الزمان والمكان عبر الامتلاك الرمزي والفكري للكون.
تجربة هي ترجمة لرغبة ذات الفنان في الوصول الى درجة معينة من التواصل مع القضية، فضاءات عامرة بالإيحاءات الرمزية والمؤشرات الدلالية المتوازية في معادلتها.
اعمال بالأبيض والاسود تجمع بين حقيقة موضوعية من اشكال ومرئيات وبين حقيقة ذاتية مليئة بالمعاني الدفينة يخاطبنا من خلالها لندرك بحسنا وتبصرنا مصطلحاته الادراكية.
اعمال تخاطب بصرنا لندرك من خلالها حجم مأساة الكائن الداخلية والخارجية الذي حضر متألما وتائها وحضرت معه الات الحرب سواء كانت الميكانيكية كالصواريخ او المؤسساتية التي تقف ورائه وايضا تخاطب بصيرتنا التي وان غاصت عميقا في مأساة الكائن الا انها لمحت في دواخل الفنان املا لن ينطفئ ما دامت هناك حياة.

*المدينة العتيقة: المكان وروح الفنان
يتحول المكان في كثير من الاحيان اضافة الى كونه مساحة للسكن الى هاجس فكري لدى الفنان وبين الملموس والايحاء يجسد الفنان تكويناته الذهنية بنغمات سمفونيتها الالوان المتناسقة مع الاشكال، يتحول فيها التمثيل البصري من العين الى الوجدان والذاكرة في انفصال عن الادراك المباشر.
وقد تمكن الفنان بحرفيته من التعامل المبدع مع الاشكال المختزلة لاهم عناصر المدينة العتيقة ومعطياتها الشكلية وابدى بداهة حسية بالغة في الدمج الثري بين توهجات الالوان للمساحات الممتدة والمساحات الصغيرة، ودقة الانشاء الذي يبرز بمهارة التضلع والاتقان في رسم المشهدية العامة للمكان بروحه وتفاصيله لتحقيق مسار الفكرة.
حظر المعمار بخطوطه التجريدية التي تحضر حينا وتختفي في زحام الجموع التي حضرت كشخوص بهيئاتها المغرقة في التجريد ولكنها بمهارة الفنان تعطي الانطباع المباشر بهويتها من خلال حضور تفاصيل اللباس التقليدي كالشاشية والجبة... وعادات الشعب اليومية، كما حضرت بعض الزخارف والنصوص التي اضافت على اللوحات جمالية وطقس حميمي بما هي ضاربة بجذورها في اعماق تقاليد هذا الشعب.
نقل لنا علي رضا سعيد بحرفية بالغة حركة شخوصه بخطوطه التي كانت في غالب الاحيان دائرية في حركية متأتية من حركية الشخوص داخل الاطار المكاني وما تتميز به من التحام وتقارب، كما كانت لمساته بالمادة اللونية متماشية مع شعبوية المكان وكثافة الحركة فيه من خلال تعانق الضربات اللونية بتجاور كما ساهمت كثافة الخطوط المنحنية في وضع اللمسات الاخيرة للاحتفاء بالمكان.

خطابات تكنولوجية: الخامة، الفكرة، التقنية
ان استخدام اي خامة يوجد بالضرورة وسائل معينة للتعامل معها حين التنفيذ، لعل استخدام علي رضا سعيد لرقائق الحاسوب بأحجامها واشكالها المختلفة هو استخدام لخامات حديثة نستخدمها يوميا في مجالنا التكنولوجي، هذه الخامة الجديدة على الممارسة الفنية لديه احدثت تأثيرات مقصودة من الفنان على نشاطه التصويري حيث ضمنها افكاره فلم يهدف فقط الى اثارة الحواس بل ايضا التعبير والقوة الكامنة داخلها من حيث تفاصيلها واشكالها المختلفة ايضا من حيث نتوءاتها وتفاعلها مع سطح اللوحة، حيث ظهرت لنا لوحات الفنان التي اختار لها تسمية خطابات تكنولوجية بقدرات تعبيرية متنوعة من حيث الشكل والملامس والنسق البصري الذي يتسارع حينا بتجاور اشكالها الهندسية ثم يهدا حينا اخر بمسطحات لونية هادئة، فجاءت التركيبات مختلفة وثرية من لوحة الى اخرى بصريا وايضا فكريا وكأني بالفنان يضع الممارسة الفنية في صلب التطور السريع للخطاب التكنولوجي الذي يجتاح حياتنا اليومية مستفيدا من الإمكانات التشكيلية والتعبيرية لهذه الخامات لتأكيد افكاره وقيمه التعبيرية، هذا التطور التكنولوجي الذي الهمه لتحقيق افكار ابداعية تتخطى الكثير من التقنيات الكلاسيكية لبناء عناصر الاثر الفني.
فتحولت المواد التكنولوجية في لوحاته الى مواد جمالية تحمل قيما تشكيلية وتعبيرية وتتضمن كل ماهو مادي وله صفة البقاء شكلها الفنان على سطح لوحاته واوجد لها علاقة تواصل مع مساحاته المرسومة والوانه بدرجاتها المختلفة فاصبح لها وجودا جديدا وجد خطابا جماليا تكنولوجيا وهذا دليل ان الجمال لا يوجد فقط في الفكرة كما لا يوجد فقط في الخامة، هو اعمق حين يوجد بينهما وفق مقاييس جمالية مبتكرة ومعاصرة.