[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/waleedzubidy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]وليد الزبيدي[/author]
بعد أن وضع مصطفى أتاتورك كل المسؤوليات بيده وفرض سيطرته على مقاليد الحكم، حتى يصل إلى النقطة التي رسمها لتركيا، وكانت تلك هي نقطة (اللاعودة) أي فصل تركيا عن الحياة العربية والإسلامية وتمتين صلتها بالحياة الأوروبية، ولاشك ، أن ذلك يعني إحداث أهم شرخ في العلاقات التركية مع الأمتين العربية والإسلامية، واذا ما تمت دراسة الأمور طبقاً للمؤثرات غير المنظورة وعلى أساس حجم الفائدة المتحققة من الفعل والتحرك، والجهة التي يمكن أن تحقق فائدة معينة سواء على المدى القريب أم البعيد، فإننا سنجد أن جميع النتائج المتحققة على هذا الصعيد، تخدم المخططات الصهيونية التي كانت تفعل فعلها في الأوساط القيادية في تركيا بفعل وجود أغلبية قادة الجيش ضمن جمعية الاتحاد والترقي المعروفة صلاتها بالماسونية، ولهذا فإن جهود مصطفى كمال الأساسية، انصبت على إنهاء الخلافة، مع أنه (كان في البداية يتهيب باستمرار الإقدام على هذه الخطوة، برغم اقتناعه بضرورتها، ولم يكن يصارح بها إلا أعوانه المخلصين المستعدين للسير معه حتى آخر الطريق).
وبالعودة إلى الأجواء التي تربى فيها اتاتورك وبإحاطته بيهود الدونمة من قادة الجيش ونشأته في مدينة سلانيك مركز الماسونية في تركيا، والطروحات الفكرية التي كان اليهود يروجون لها والتي تؤكد أن قوة تركيا تكمن في عزلتها عن العالم الإسلامي، فإن مصطفى كمال قد تأثر جداً بتلك الطروحات، وفي هذا الجانب يمكن أن نلاحظ حجم التأثير اليهودي في القرارات التي اتخذها خلال زعامته لتركيا، والتي انصبت في بدايتها على إنهاء الخلافة التي كانت في نظره رمزاً لتخلف تركيا وعجزها عن السير في طريق العمران والتقدم).
يذكر مالك منصور في بحثه عن الماسونية ودورها في الثورة التركية التي قادها مصطفى كمال معلومات نشرها الكاتب الانكليزي هـ.س. ارمسترونج في كتابه (الذئب الأغبر) الصادر عام 1933، يقول إنه كانت في مدينة (سالونيك) عام 1908 منظمة ماسونية كبيرة وقد تم ادخال مصطفى كمال في هذه المنظمة كعضو في محفل (فيدانا) الماسوني.
ومن خلال الطروحات التي عمل مصطفى كمال على تعميمها في الأوساط الشعبية والجماهيرية، نجد أن حالة من الحقد الدفين كانت تنسب إلى زمن الخلافة، ومع أن السلطنة العثمانية، استطاعت أن تحتل مكانة مهمة في التاريخ، وأصبح لها حضورها الكبير بين الأمم، واستمرت أربعة قرون، دخلت خلالها الحروب الكثيرة وتوسعت رقعتها الجغرافية ووصلت إلى مدن كثيرة، إلا أن الخطاب الإعلامي الذي ركز عليه مصطفى كمال وساعدته على بثه بين الناس وسائل الإعلام التي كانت أغلبها مملوكة لليهود، كان يعمل على فصل الأتراك عن تلك الانجازات التي حققوها باسم الاسلام والتي أعطت للأتراك هويتهم وحضورهم بين الأمم، وكانت المسألة ليست سهلة، اذ أن تحويل النظرة العامة للناس صوب ضفة أخرى يحتاج الى امكانات خاصة، كما أن ذلك التوجه لا يمكن أن يجئ مصادفة او اعتباطاً أو تنفيذاً لرغبات أتاتورك الآنية، وبدون أدنى شك أن اغلاق المدارس الاسلامية والغاء الجمعيات الدينية في تلك الفترة كان من أهم الخطوات التي اتخذها اتاتورك على هذا الصعيد وكان ذلك يعني:
أولاً: قطع التربية والثقافة الاسلامية عن الجيل الجديد، الذي بدأ يتلمس الحياة في ظل الطروحات الجديدة التي يقودها اتاتورك، وهذا القطع المباشر، يعني أن التناقض في السلوكيات الأسرية سيدخل في مرحلة جديدة، بسبب الاختلاف بين توجه الآباء الذين عاشوا في أجواء تربوية إسلامية صرف من الدراسة الى التجمعات الاسلامية والطقوس والاحتفالات الدينية الى واقع الحال الذي فرض على الجيل الجديد، والذي وجد نفسه في حالة انقطاع شبه تام عن الطقوس الإسلامية الأسرية..
وتتضح الصورة بدقة اذا عرفنا أنه في الثلاثينيات وصف المعاصرون العاصمة التركية بأنها مدينة دون منائر فباستثناء جامع الحاج بيرم في المدينة القديمة، ولم يكن ثمة جامع يستحق الذكر في انقرة الجديدة ولم يبن جامع واحد بأي حجم خلال حكم حزب الشعب الجمهوري الذي دام سبعة وعشرين عاماً، أما جامع (مالنيه) في القسم الجديد من المدينة فقد انشئ في الخمسينيات بعد اندحار حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات، لكن موقع هذا الجامع لم يمكنه من السيطرة على الخط الأفقي لمدينة انقرة اذ منح ذلك الشرف لمعبد علماني هو ضريح اتاتورك الذي بني على تل مرتفع في المدينة خاصة في الليل عندما يضاء..
ثانياً: إن جمهرة الأساتذة والتدريسيين والمشتغلين في المدارس الإسلامية التي كانت منتشرة بكثرة والجمعيات التي كان لها حضورها في المدن التركية، هذه الجمهرة وجدت نفسها فجأة أنها منقطعة عن تخصصها الفكري والعملي، وليس ذلك وحده بل إن المطلوب من الهيئات التدريسية التي تعمل في التخصصات الإسلامية، أن تتجه إلى أجواء دراسية أخرى تزخر بالتقاليد الجديدة التي تتناقض تماماً مع التقاليد التربوية التي كانوا يعملون على ترسيخها، والتي كانت تعبر عن روح الإسلام، وبعد أن تغير المنهج الدراسي الإسلامي اتجه كمال أتاتورك إلى استبدال الإشارات والرموز المتعارف عليها في التقاليد والأعراف الإسلامية بإشارات ورموز ذات طبيعة مسيحية أو أوروبية، ويركز على هذا الجانب في دراسته لمرحلة أتاتورك الكاتب (فيليب روبنسن) مؤكداً أن الرئيس التركي قد نقل عطلة نهاية الأسبوع من الجمعة المقدسة عند المسلمين إلى يوم الأحد المسيحي، وهذه الخطوة كانت ايذاناً بانتقالة واسعة بالحياة اليومية ذات المظاهر الإسلامية، إلى المظاهر الحياتية ذات المظاهر المسيحية، ولمزيد من الامعان فقد أكمل خطواته تلك باحلال التقويم الجريجوري محل التقويم القمري الاسلامي.