[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
أشكر الزميل (في الثقافة والسفارة وليس في الوزارة) الصديق د. أبوتميم حمد عبدالعزيز الكواري لأنه أنقذني من مشكلة عانيت منها هذه السنوات الأخيرة، وهي مشكلة تتمثل في أن بعض طلابي القدامى أو الذين يتوسمون خيرا في حسن ذوقي الأدبي يطلبون مني أن أنصحهم بكتاب يطالعونه وينفعهم، فأعود إلى ذاكرتي وأنصحهم بآخر ما قرأت من كتب فرنسية وأميركية ويابانية وغيرها، إلا أن بعضهم يحرجني بالقول بأنه يريد كتابا عربيا، فيضعني في مأزق لأني (ولعلي كنت مقصرا) لم أعثر على كتاب في الفكر والسياسة والأدب لفت نظري في المكتبات بعنوانه أو بقامة مؤلفه واقتنعت (سامحني الله) بأن كل الكبار العرب الذين توفاهم الله لم يعوضهم أحد ممن جاء بعدهم. فهل هو تقصير مني وتعصب لجيل المبدعين؟ أم هو جهل بأقلام جديدة لم يسعفني الحظ للتعرف عليها؟ أم في الحقيقة تصحر ثقافي أصيبت به أمتنا من جملة ما أصيبت به من كوارث؟ الله أعلم. حتى أهداني أحد الأصدقاء كتاب (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) الذي ينقل لنا سيرة ذاتية لرجل مستنير بأنوار إبداعات حضارية متنوعة، كان ولا يزال ينتقل بينها متأملا أحيانا ومنبهرا أحيانا، ولكن في كل الحالات مستخلصا منها العبرة والحكمة. اليوم بمقدوري أن أنصح الشباب بمطالعة هذا الكتاب الخليجي العربي القيم والسلس والممتع؛ لأنه مكتوب بصدق وعفوية وتواضع، لا يريد من ورائه صاحبه خدمة أيديولوجية بعينها، ولا كسب أنصار في ساحة وغى فكرية، ولا إقناع قرائه بوجهة نظر أو موقف. بل إن الكاتب المثقف بعد أن اختزن التجربة وعايش التحولات العربية والعالمية، وأسهم فيها يتجول بالقراء، كأنه دليل مرشد في فضاء الأفكار وصالات المتاحف وأسرار الإنجازات وخفايا الشوارع بين مدن عجيبة ومدهشة، أحبها وسكنها مثل باريس ونييورك والقاهرة، أو يأخذنا إلى أمهات كتب حديثة (نعم للحداثة أمهاتها!) ليقول لنا إنه تعلم منها، وإن أصحابها فتحوا أمامه آفاق ثقافة أو أطلعوه على حقائق متميزة أمثال كتاب حول الميديا الجديدة للتونسي الصادق الحمامي أو مؤلفات المفكر الفرنسي (ريجيس دوبريه).
إن الذي شدني أكثر لكتاب الصديق د. حمد هو هذا النوع النادر المحبب إلى نفسي من الاعتبار الفكري، وفك الكاتب لطلاسم الرسائل الحضارية التي تنبعث من قصة قرآنية أو قطعة أثرية أو لوحة تشكيلية أو جملة أدبية أو بيت شعري أو لقطة واقعية من حياتنا اليومية قد يمر بها الناس العاديون دون التفات، لكنها عند المثقف تتحول إلى ينبوع زلال من المعنى والحكمة والحيرة الخلاقة. فأحببت مثلا حديث الكاتب عن قصة نبي الله نوح عليه السلام، وقد جعل أبو تميم تلك السفينة مجسما مصغرا للإنسانية بتنوع أعراقها وحرص منقذها النبي الملهم ـ عليه السلام ـ على أن تكون السفينة شاملة لكل المخلوقات، في إشارة إلى تعلق الكاتب باحترام الاختلاف والسعي إلى الائتلاف ونحن جميعا نركب سفينة سيدنا نوح لننجو من غرق الحضارة وضلال التعصب وظلام العنف. وأنا أشهد للصديق د. حمد أنه من هذا المعدن الأصيل الذي يؤمن بأن الثقافة في جذورها وأعماق معانيها ما هي إلا قبول المختلف والعمل الدؤوب على دمج الخصوصية (الخليجية مثلا والعربية عموما والإسلامية بشكل أعم) في الحضارة الكونية الشاملة، وهو ما قام به كسفير شاب مثل دولة قطر في دول أساسية كبرى وأشدها التصاقا بقضايا العرب، كما مثل قطر في المحافل الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والمؤتمرات السياسية والثقافية والمناسبات الدبلوماسية في لحظات تحول حضاري دقيق وخطير. ثم كوزير حين رفع التحدي وأنجز مشروع (الثقافة وطنا والدوحة عاصمة) وباستمرار ككاتب (في وسائل الاتصال الاجتماعي) ولم يتخل أبو تميم وهو بعيد عن المناصب عن تلك الفضائل والمثل العليا التي تعطي معنى لحياة الناس. وأقدر فيه أيضا هذا الوفاء الخالص لتوجهات قيادة الدولة وخياراتها ورموزها، فحين تقرأ كيف قام وزير الإعلام نفسه (وهو حمد عبدالعزيز الكواري) بتنفيذ خيار أمير دولة قطر في إلغاء وزارة الإعلام عندما لم يعد لها دور وقد عشت ذلك الحدث في الدوحة، وهو حدث يخصص له الكاتب فصلا في كتابه إيمانا منه بأن الإعلام حر أو لا يكون وبأن ضمائر الإعلاميين وشعورهم بالمسؤولية يحصنهم ضد الزيغ والهدم والخطإ. يقول د. أبو تميم: "وهكذا كنت أول وزير يلغي وظيفته باقتراح منه".
من خلال صفحات هذا الكتاب سوف تتمتع بأدب جميل ونافع مثل اللقاء المتخيل بين الكاتب والسلطان سليمان (بطل المسلسل المعروف) في أحد دهاليز قصر (توبكابي) في إسطنبول حين زار الكاتب ذلك المتحف الرائع وحاول فك الاشتباك بين حقيقة ذلك السلطان الصالح وبين خيال صاحب المسلسل الذي جعل من قائد فاتح مسلم مجرد زير حريم! ويحلل الكاتب بهذه المناسبة تلك العلاقة الجدلية القديمة بين التاريخ وبين الخيال كما تقرأ في الكتاب نظريات تأصيلية لقيمة الثقافة والفن في حياتنا. يقول الكاتب: "أليس الأدب مقاومة بالحلم والخيال لرداءة الواقع ومواجهة لبلى الزمن؟ أليس الأدب إعادة ابتكار للإنسان حين تدمره نوائب الدهر فيبعثه الخيال كطائر الفينيق؟"
ويعجبك في هذه السيرة تحليل عميق لأحد أركان عصرنا، وهو ركن سيادة التكنولوجيا الاتصالية وتحول السلطات المركزية إلى ذرات مع تحول المواطن العادي إلى محرر ومبتكر وموزع أخبار وأحداث ورؤى، وهو تحليل يستحق التوقف عنده لأنه صادر عن رجل تميز بتحمل أمانة وزارات الإعلام ثم الثقافة والتراث. ويجمع الكتاب جملة من التحليلات لمفاهيم الثقافة والدبلوماسية والمشاورات والمفاوضات والحضارة الرقمية التي دخلت مكتب الكاتب ومكتبته، فجمع بين آلياتها المتطورة وبين جذورها الأصيلة مثل الخط العربي، وكل تلك التأملات صاغها أبو تميم في لغة ليست نخبوية ولا أكاديمية، بل لغة أدبية تبلغ شغاف القلوب؛ لأنها صادرة عن قلب وإحساس ومعايشة؛ ولأنها تعتمد المراجع القيمة أمثال مواثيق حقوق الإنسان وبحوث الجابري حول العقل العربي وغيره من المراجع التي ضمنها الكاتب في فهرس خاص يشمل مؤلفات ذات قيمة وتأثير كانت هي مناراته في تأليف سيرته التي بين أيدينا.
ولا يفوتني أن أشكر الكاتب ثانية بكل صدق ومودة؛ لأنه أتاح لي فرصة استعادة الأمل في الفكر العربي، ومنحني لحظات مما سماه أبو حيان التوحيدي (الإمتاع والمؤانسة) ورجائي عنده أن يواصل الكتابة، ولا يكتفي بوسائل التواصل الاجتماعي، فيستمر في العطاء الفكري المتدفق بأدوات النشر المتاحة من كتب وصحافة؛ لأنها تبقى للأجيال القادمة، ولا تمحوها الأيام كالفضاءات الرقمية.