يروي محمد مكية في أكثر من مناسبة وحديث قصته مع العمارة وبداياته البسيطة المتواضعة التي قادته لدراسة هندسة العمارة في بريطانيا في زمن لم يكن مألوفا السفر والترحال طلبا للعلم في الخارج. رحلة بداية محمد مكية تبدأ من بغداد، بعراقتها وأصالتها وتاريخها في بداية القرن العشرين، وتحديدا في محلة صبابيغ الآل، وهي إحدى المحلات السكنية القديمة في المدينة. وفي جلسات حوار مع المعماري الكبير في مطلع الألفية الثالثة راح يتحدث بحنين وفخر للماضي العريق الذي قاده في رحلة حياة طويلة حتى حطت به الرحال في قلب لندن وفي ديوانه الكوفة. ولكل محطة من المحطات كانت ثمة شجون وذكريات. أما عن منشأة فيقول مكية بأنه نشأ في عائلة تنحدر من جنوب العراق، لها باع وذراع في النسيج مما كان له كبير الأثر في هجرة العائلة. وقد توارثت العائلة مهنة النسيج جيلا فجيلا حتى جده الحاج صالح. ولأهمية دور العائلة في هذه التجارة ولدور جدته مكية في تجارة النسيج بعد وفاة زوجها الجد عبد العزيز عرفت عائلتها باسم مكية. ولم تخل أسماء العائلات البغدادية من تأثير المهنة على التسميات، فهناك الكثير من العائلات المشهورة التي ارتبطت بالمهن التي عملت بها، كآل العطار والذهب والسراج وسواها. لكن هذه التسميات تفاوتت بحسب قوة المهنة بين الأجيال، وبصرف النظر عن الذكورة والأنوثة حيث فرضت بعض النسوة تأثير أسمائهن على بعض العائلات كما هو الحال.
ولد محمد مكية في العاشر من محرم عام 1914 في نفس اليوم الذي تقدمت فيه القوات البريطانية لاحتلال بغداد. ونشأ يتيم الأب منذ أن كان عمره سنتين، ليكبر ويشتد عوده في كنف خاله الذي أراد تحويل اهتمامه من المدرسة إلى التجارة والعمل في دكانه. ففي مهنة التجارة ضمانة أفضل للعيش، إلا أن مكية أظهر ميلا نحو المدرسة متمنيا أن يصبح طبيبا أو معماريا. وبعد إكمال مراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية في المدرسة الثانوية المركزية، وهي الوحيدة في بغداد آنذاك، تم قبول مكية في بعثة دراسية لدراسة الهندسة المعمارية في بريطانيا بعد أن أنهى دراسته الثانوية عام 1935. لكن شقيق مكية كان يحثه على دراسة هندسة النفط، بدافع أن العراق كان مقبلا ما بعد الثلاثينيات من القرن الماضي على تطور كبير في ذلك المجال. وفعلا تقدم مكية بطلب لدراسة هندسة النفط، لكنه يروي أن طلبه رفض، لأن ترشيح طلبات الدراسة كانت تقدم من قبل شركة النفط فقط، وهذه الشركة لا تقبل للإبتعاث للدراسة سوى من حصل على شهادة إعدادية بريطانية تؤهلهم لدخول الجامعات البريطانية. ولذلك صرف محمد مكية مجددا اهتمامه لدراسة الهندسة المعمارية.

****************
-2-
الرحلة طلبا للعلم
لا تملك وأنت تستمع لمحمد مكية وهو يقص عليك قصة سفره للدراسة في بريطانيا إلا الإصغاء التام لسرد تاريخي مشوق لقصة بدايات حياته المهنية، وهو الذي شارفت حياته المهنية آنذاك (في مطلع العام 2000) على الأربعين عاما من التصميم والعمارة. وقد تخطر ببالك تساؤلات عديدة لكنك لا تملك أن تقطع حبل الحديث وبدلا من ذلك تطلق لخيالك العنان لتصور الأحداث والأماكن والحوادث، وبخاصة أنها تدور في زمن كان من النادر تقريبا دراسة هذا التخصص في العالم العربي لمراحل الشهادات المتقدمة، فضلا عن ندرة رموز العمارة ما خلا شيخ المعماريين حسن فتحي.
وإذ يروي محمد مكية انطلاقة الحافلة من بغداد إلى بيروت، تتحرك دوائر التخيل كعجلة فيلم تاريخي، باللون الأبيض والأسود. يقول مكية إن مجرد التفكير بالسفر إلى خارج العراق، كانت الفكرة بحد ذاتها مستغربة وغير مألوفة. ولا أدري لماذا حين سمعت القصة من مكية راح خيالي نحو الشرق قليلا لأجد تشابها كبيرا مع قصة المهاتما غاندي حين يروى في مذكراته قصة سفره لدراسة المحاماة في لندن (وإن كان الأخير قد سافر قبلا بنحو ثلاثين سنة تقريبا)، لكن هناك ظروفا متشابهة إلى حد كبير بين القصتين في زمنين من ذات التاريخ تتشابه فيها وسائل السفر بالباخرة، فضلا عن تأثيرات الشقيق الأكبر إيجابا ودون ذلك فيما يتعلق بالمهنة. ففي حالة غاندي كان لشقيقه الأكبر دور في تحفيزه للسفر وتزويده بما يحتاجه لركوب الباخرة. وفي الحالتين يروي الإثنان أن رحلة التوديع كانت في ذلك الوقت تعتبر حدثا عظيما يحضره العشرات إن لم يربو العدد على المئات. فالسفر ووسائله كانت شاقة ورحلته بمثابة انتقال من قارة، أو عالم إلى آخر، فضلا عن المدة الزمنية التي تستغرقها الرحلة والأخطار التي تحدق بالطريق رغم السلامة النسبية لركوب الباخرة آنذاك (فيما خلا ما يرويه غاندي في رحلته اللاحقة بعد عودته من لندن وقراره للسفر إلى جنوب إفريقيا حيث كاد يشرف على الهلاك ومن معه في الباخرة في أحوال جوية عاتية). وهكذا كان حفل توديع مكية بالحالة حفلا مفصليا وتاريخيا بكل ما تعنيه الكلمة، وانطلق الحافلة إلى بيروت ومنها ركب مكية البحر بالباخرة ميمما شطر الجزيرة البريطانية في أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين.

******************
-3-
سنوات الدراسة في ليفربول وكامبردج

وإذ حدثني آنئذ، وكنت في مقتبل تجربتي في بريطانيا، لاقت كلمات محمد مكية أسماعا صاغية مصغية، وكان لكلماته أثرا كبيرا فيّ لوقعها ومحتواها. فقد راح مكية يذكر ما واجهه في بداية رحلة غربته من ألم الفراق وصعوبة الوحدة ووحشتها، وفوق ذلك، كانت العقبة الكأداء الكؤود وهي اللغة. لكن التفوق كان كان رفيق مكية الملازم، مما أثار استغراب بعض أساتذته من تفوقه في الامتحان، لكنه يعزو ذلك إلى نجاحه في الفكرة دون المادة المطروحة للامتحان. وقد طرح ذات مرة موضوع متعلق بأجواء حديقة الحيوان، وطلب إجراء حوار مع حيوان ما، فاختار الجمل قاصدا من أجل لفت انتباه الأستاذ لأصوله العربية، مع ميل لجلب عاطفة الأستاذ وللتعبير عن التخوف من اللغة الإنجليزية.

ولم يجد مكية فيما يرويه صعوبة في الإندماج مع المجتمع البريطاني والاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي، وفضلا عن ذلك كانت لشخصيته الودودة أبلغ الأثر في التقارب مع المتعاطفين والمنصفين من البريطانيين والتسرية عما كان يجده من هموم الغربة ووحشة الوحدة ومشاركته هموم ما تعانيه بلده من تغيرات جيوسياسية. ولذلك يروي كيف أنه وبالرغم من العيش في مجتمع بريطاني يختلف تماما عن مجتمعه الذي غادره، إلا أن مكية لم تفارقه ذكريات محلة صبابيغ الآل في بغداد. كما لم تفارقه ذكرى من طفولته حين اعتدى جندي بريطاني عليه وهو في دكان خاله في بغداد، لكن ذلك في المقابل لم يكن ليمنعه من الاستفادة من المجتمع البريطاني علميا، فضلا عن تفاعله مع المنصفين البريطانيين الذين شاطروه نبذ مثل هذا العمل الشائن بحق طفل صغير. وكان مكية دائم التفكير بمحلته وكيفية تطويرها بما استجد له من علوم ومعارف تلقاها في بريطانيا. وهذه الفكرة نقلتني مستمعا لريف القاهرة في بداية القرن العشرين حيث كان يجلس حسن فتحي مستمعا لروايات والدته عن الريف، حيث الخراف الصغيرة تلهو وتمرح بين الجداول والأزاهير، ليكبر بعدها حسن فتحي كما يروي في مذكراته ليجد الريف مغايرا للصورة التي رسمها من قصص وحكايات والدته، ويجد حسن فتحي الريف مكانا للناموس والحشرات فيعقد العزم على دراسة الزراعة ثم العمارة لتطوير حال الريف، وهكذا كان.

وهكذا كان مكية دائم الحنين لمحلته وبيئته التي نشأ بها، تراوده نفسه على الدوام بالتسلح بالعمل والمعرفة لتطويرها. وتفتحت له أفاق رحبة للمعرفة والبحث، وتعرف من بريطانيا على علوم الغرب فضلا عن معارف الشرق التي كانت الجسر الذي نقل أوروبا من العصور الوسطى إلى العالم المعاصر. فتعرف محمد مكية في ليفربول على الفارابي وابن خلدون والكندي، وعلى دقائق وأسرار العمران المشرقي. يحدث مكية فيقول: لم يكن كل شيء في بريطانيا مرضيا بالنسبة لي، لكن إيماني كان كبيرا بأن المعرفة عالمية والعمل لا وطن له وليست هناك حدود.
في ليفربول كان القلق يساوره بسبب منافسة زملاءه الطلبة الإنجليز، لأن ما تهيأ لهم من إمكانات كان أكبر مما عنده. لكن هذا القلق كان دافعا إيجابيا له كي يبذل جهدا أكبر وسببا للتفوق في بعض الفروض والواجبات، أو المهام التي كلفها به أساتذته. ومن هنا تم له النجاح والتفوق في بعض المشاريع التي كلف بها في الدراسة. ومنها مشروع تصميم كنيسة لبلدة صغيرة، فاز بها رغم كونه غير مسيحي. وفي عام 1941 أنهى دراسته الجامعية الأولى من ليفربول، ليلتحق بعدها للدراسة في جامعة كامبردج ليتخرج عام 1945 متسلحا بشهادة الدكتوراة في الهندسة المعمارية. لكنه يروي أن هذه الشهادة، لندرتها في ذلك الوقت كانت حائلا دون حصوله على الوظيفة بسهولة، فلم يكن ممكنا الحصول على الوظيفة في منصب حكومي كونه غير سياسي، كما لم تكن هناك دائرة تناسب مستوى شهادته.
في عام 1951 عمل خبيرا في الأمم المتحدة في ندوة خاصة بالخدمات الاجتماعية في البلدان العربية ورئيسا لمؤتمر جامعة الدول العربية الخاص بمباني المدارس. وفي عام 1959 أسس فرع الهندسة المعمارية في جامعة بغداد. وبين الأعوام 1963 و1965 عمل أستاذا غير متفرغ وممتحنا في جامعة زاريا بنيجيرا، وعام 1967 عضوا للمجلس الدولي للمواقع الأثرية، وعام 1964 عضوا في جامعة بيبلوس الخاصة بالمستوطنات البشرية، ومن عام 1966 ولمدة عامين عمل عضوا في مجلس التخطيط الأعلى في جامعة بغداد. وكان في العام 1981 عضوا في لجنة منح جوائز الآغاخان للعمارة الإسلامية.
وقد أدت كثرة تجواله في الريف البريطاني وتعرفه على الواقع الشعبي إلى مزيد من اهتمامه ببغداد ومحلاتها التقليدية. وأدى ذلك إلى مزيد من اهتمامه بالتراث الشعبي. وبعد عودته من الدراسة وحصوله على شهادة الدكتوراة من جامعة كامبردج والتدريس في جامعة بغداد، كان يسير مع طلبته ويتجول في شوارعها وحاراتها القديمة وبيوتها ومساجدها ومقاهيها. وكان دائم الحث لطلابه على الحفاظ على التراث الشعبي وأبرز مظاهره. ودائم النقد لمظاهر العصرنة التي كانت عاملا لهدم التراث عند البعض. وكان دائما ما يشير لمظاهر التراث في الأهوار وضرورة استخدام القصب والطين والبردي كمواد طبيعية للبناء من أجل الحفاظ على الطبيعة الرائعة التي كادت بعض السياسات الطائشة أن تقضي عليها. وكان كثيرا ما يلمع وجهه بابتسامة وهو يحدثني قائلا: تصور أن دارسا في بريطانيا ويعيش فيها لسنوات طويلة يدعو إلى عدم تقليد عمارة الغرب، بينما ترى آخرين لم يروا الغرب يدعون لتقليده وبناء الفلل على نمط غربي بدلا من البيت البغدادي التقليدي الجميل! ولم تكن تلك الجملة موضع عجب كبير، إذ كنا وما نزال نتشاطر هذا الاعتقاد وبعد غربة في بريطانيا تنوف على العقدين من الزمن.

وليد أحمد السيد