إبداع ومعاصرة من الزيتونة إلى طرابلس

متابعة ـ فيصل بن سعيد العلوي :
لطالما كانت الفنون التشكيلية من أنجح الوسائل الحضارية للتعبير عن المكنونات الفكرية والهموم اليومية للإنسان عبر التاريخ، وتقاس حضارة الشعوب بالزخم والرقيّ الفني لديها، وبحرية الفنان في التعبير عما يختلج في صدره وفي الوعي الجماعي لشعبه من خواطر وتجارب وقضايا إنسانية ، بهذه الكلمات قدم الدكتور سامي منقارة رئيس جامعة المنار في طرابلس ببيروت افتتاحية كتاب معرض "بيروت التجريبية 2015م" مؤكدا على ان ثقافة الفنان اللبناني وتشعبها وانتشاره في مختلف أصقاع المعمورة أغنت الإنتاج الفني وخاصة البعد التجريبي المعاصر حيث واكب تطوره وانتشاره في البلدان المتقدمة ، مشيرا إلى ان المعارض الفنية من أنجح الوسائل لتأمين صلة الوصل بين العمل الفني وعموم الناس بالرغم من تقدّم وإنتشار كل وسائل التواصل الإجتماعي وينطبق ذلك بالأخص على الفن التجريبي التفاعلي حيث الحاجة إلى التواصل المباشر بين العمل الفني والمتلقي.
لا ينتظر الفنان بزوغ الفجر وشروق الشمس ولا يتوقف عند ارتقاء القمر عرش الليل كي يبحر في سفر الابتكار. للحياة دورتها وللفنانين سعيهم الدؤوب من شواطئ بيروت الى الزمن الآتي والحياة مستمرة في واقع الابداع .. من هذه الروح، انطلق معرض بيروت التجريبي الرابع ليطلق العنان للخيال الخلاق والإستنباط والتجربة قبل إقتراح الحلول بمختلف الإختصاصات من عمارة وتصوير وتصميم داخلي وتصميم جرافيكي قدمته ريشة وإبداع فناني جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت.
يقول الدكتور الياس ديب رئيس جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت "لم يعد الفن اليوم مومياءات في مدافن المتاحف، الفن اليوم هو نسمة حياة تدخل النفوس فتضيء قنديل الالم وتطفىء حرائق اليأس التي تشب من كل حدب وصوب .. الفن اليوم تفاعل وتواصل بين الاصيل والجميل، بين الغريب والعجيب، بين ما كان وما سوف يأتي ربما... وبعد طول انتظار... كي يبقى القرار في وطن القرار دون هروب وفرار رغم انفتاح البحر في زيتونة باي على البحار، الحياة مستمرة وطاحونة النجاح تدور مع الفنانين والمشاهدين التجريبيين ومستقرة دائما في ثبات الابداع والمعاصرة في لبنان".
تضم لوحات الفنانين خيالات واسعة يحاكي الواقع بعضها ويستشرف المسقبل بعضها الآخر ، لا تخلو السوداوية من أعمال مليئة بالألوان ، ولا تخفي الألوان مساحات السواد التي تغطي العالم عبر طرق تعبيرية متنوعة قدمها فناني لبنان .. ففي لوحة "الأرض الطيبة" للفنان عدنان حقاني قراءة بصرية، بنصه التشكيلي والتجهيزي، وهو نص يعتمد الرؤية المفتوحة على المدى ... يتناول العنصر الزخرفي
في أبسط أشكاله منطلقا من حيز بسيط إلى فضاء زخرفي أوسع وهو يقوم على لعبة التضاد اللوني وتنويعاته جامعا ما بين دقة الصنعة ومتعة الرؤية متوخيا إدراك البعد المفهومي للعمل وأهدافه ممزوجا ما بين الفكرة والخامة (أتربة لبنانية طبيعية بالوانها المختلفة). يقول عنه "الفنان" : لقد دأبت أيادي الشر العبث بما خلفته الحضارات المتعاقبة من تراث معماري وفنون منوعة وتربة نعيش فوقها... هذه الايادي تعمل وبطريقة ممنهجة على تشويه وتدمير وسرقة كل ما تطال ايديهم دون أن نسمع صرخات شاجبة أو نلمس إجراءات عملية رادعة.
ويضيف "حقاني" :ان الزخرفات المنوعة شكلا ولونا تدل ببعدها الرمزي على غنى وتنوع أرضنا بشرا وحجرا وترابا ضمن اوركسترا وجودية ملفته ، هل المطلوب استنادا لما نراه يوميا إقتلاعنا من جذورنا وجعلنا شعوبا متأخرة ومشوهة فكرا وروحا وتاريخا وسمعة التاريخ في خطر والجغرافيا كذلك ان مستقبلنا فعلا على المحك.
اما العمل التجريبي "داروين ....وقرد البونوبو" للفنان اجود ابو زكي فيقول عنه الفنان "لم يعد أمامَها سوى هذا الحلّ .. لم تحمها لا أرض ولا سماء .. جرّدوها من كل المحرّمات .. لا قانون يحميها ولا رجال .. تركوها مكشوفة لكل متاع الغرائز وما تركوا لها الا غطاء رأس بال فارغ من كل مضمون".
وفي عملها "حلوة متل التفاحة" تحاكي الفنانة هند الصوفي الفواكه والمرأة كثنائية منذ آدم الفاكهة، الجنة، الخطيئة، المرأة ، ففي مهرجان الفاكهة تلازم وجداني مع المرأة ، المرأة الأرض المعطاءة اختارت مكانا يحمل تضاريسها ، لتبدو النساء حبالى، حاملة كشجرة الفاكهة، وان كانت الفاكهة ثمرة هذا الحمل، فالولادة هي الخلق، وهي ثمرة العطاء، عطاء المرأة.
وفي مُدَوَّناتها ( ثلاثية الابعاد) تدلل الفنانة التشكيلية رولا شمس الدين حلبي الامتدات الأفقي في عملها على الخط الزمني الذي يخلق روتينية الحياة ، تكسر رتابته غيمة في أعلى يمين العمل ، وتشير برمزيتها إلى الصورة المقال او النموذج الكامل الذي يصبو كل انسان إلى ايجاده في شريكه اما ظلال الفراشي على خلفية العمل ، فتحاكي شكل كروموزومات الكائن البشري ما يكرس الاختلافات الفردية وبالتالي نسبية الإنسجام.
وحول عملها "الرقص على جمر الوطن" تمثل الفنانة سوزان خيرالله العمل التجريبي شكلا رمزياً يحمل في جوانبه التحريف والتأويل،
للغرابة واللاعقلانية البعيدة عن أشكال الواقع، والمفاهيم الجمالية ، فيعبَر عن الحياة الداخلية للنفس الإنسانية بما تحمله من ألم، وقلق، واضطراب، وعنف، لكائنات وقعت في قبضة الصيرورة وتساوت مع بقية الأشياء وتحول فيها الإنسان الى شبه كائن، ذو بعد واحدا فاقدار لقيمة الإنسانية ، يراوح في مكانه ، ويرقص على ألم الأزمات الإجتماعية والإقتصادية، والسياسية.
اما الفنانة التشكيلية خولة الطفيلي فرأت من "موت الموناليزا" حكاية رسمتها بقياساتها المطابقة وبحثت على عدة صور واعمال لفنانين وإعلاميين بل وتجّار قد أدخلوا رسم المناليزا في لعبة جديدة، عصرية.. وجدت ظاهرة التشويه وتدمير الجمال واضحة خصوصاً على صفحات التواصل الإجتماعي، فقامت بدراسة بسيطة استخلصت من خلالها ما آلت إليه الذوقية الجمالية وما حدث في عصرنا من إشكاليات المعاصر وما بعدها، وهذا يعكس عمق المعاناة،معاناة عصر محموم بالسرعة والفوضى والربح السريع .. بهذا العمل ارادت الفنانة ان تجرب وتقارب لوحة المناليزا لتصبح عملا لها ، تتساءل "خولة الطفيلي" : أليس كل انسان فنان ؟ وتقول : وضعت آنية فيها رماد ودللت على انها رماد الموناليزا من التراب وإلى التراب والصقت خيوط من الصوف الأحمر للدلالة على النزيف تاركة للمتلقي سؤالا واحد هل نحن بحاجة لعصر نهضة جديدة .. ؟ نهضة لكل القيم ؟.
وفي عملها "الذاكرة والهوية" تقول الفنانة رجاء حطيط : يسير الإنسان على جسر الحياة بين موعدين... شهادة الميلاد ، ووثيقة الوفاة ، لأثبات وجوده القانوني ببطاقة أسمها الهوية لكن شهادة وفاة لا تتوفى المبدعين والصالحين .. فكم من الراحلين الذين ما زالوا يقودون الحياة ! .. تتمزق الأوراق أو تمحى الكلمات ويخفت حبرها .. لكن تبقى الذكريات والعلم والأثر ، المختار يوثق وجودك في الحياة .. وعليك ان تثبت جدارتك وبقائك حيا بعد الموت عالما او شهيدا .. وان لا تموت في عز حياتك متأبطا .. شهادة ميلادك.