تشكلت عقب الحرب العالمية الثانية حالة سياسية عالمية قائمة على التنافس بدون حرب أو صراع عسكري مباشر بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وبين الاتحاد السوفياتي وحلفائه.
وكانت هذه الحالة تنظم الصراع على النفوذ العسكري والسياسي في العالم، وسباق التسلح، والجاسوسية مع الالتزام في الوقت نفسه بتقاليد وسياسات تجعل الصراع بدون سلاح أو في حروب تقليدية محدودة وتحت السيطرة تجري بالوكالة.
مؤخرا بدأ الحديث عن عودة الحرب الباردة يشكل السؤال الرئيسي في التحليلات السياسية والاهتمام الإعلامي، منذ أن اندلعت عدة أزمات على خلفية الأزمة الاوكرانية التى كانت وقود تلك الحرب الجديدة بين الغرب وروسيا، وأصبح عاديا أن تجد اليوم في الصحافة العالمية العريقة مثل نيويورك تايمز وجارديان وواشنطن بوست ودير شبيجل عناوين كبيرة ورئيسية من قبيل "الحرب البادرة" والحنين إلى الحرب الباردة، وهل تعود الحرب؟ ولكن يستبعد كثير من المحللين عودة الحرب بعد أن مضى العالم في حالة لا رجعة فيها من الاعتماد المتبادل والتداخل الاقتصادي والمعلوماتي، وأصبح التنافس العالمي يتخذ أشكالا ومضامين مختلفة عن المرحلة السابقة.
المخاطر الجدية من الابادة النووية أثناء ذروة الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، أنتجت معالجات سينمائية وتلفزيونية عديدة ناجحة تتعرض لهذا الصراع من منظور مغامرات خفيف وأحيانا كوميدي صريح. لا عجب أن النجاح الأكبر كان من نصيب هذا النوع (قديما) فالجمهور يريد دائما ما يسليه ويسحق همومه ويسخر من مخاطرها، أكثر مما يذكره بحدتها وخطورتها بشكل مرعب.
وبرغم مرور أكثر من عقدين من الزمان على نهاية تلك الحرب، الا انها عادت لتطل برأسها من خلال السينما، حيث تبرز الحرب الباردة كموضوع لأكثر من فيلم سينمائي تم إنتاجه خلال العام الحالي، وفي مقدمة هذه الأفلام:
رجل من يو.إن.سي.إل.إي (The Man from U.N.C.L.E) : هو فيلم أكشن وتجسس كوميدي أميركي من إخراج جاي ريتشي والذي كتبه بالاشتراك مع ليونيل وايجرام، وهو مقتبس من مسلسل بنفس العنوان صدر في 1964، استمرار لحالة الهوس التى أصابت هوليوود مؤخرا من نوستالجيا كل ما هو كلاسيكي.
كاميرات ريتشي صاحب فيلم المغامرات الكوميدي (Sherlock Holmes) لروبرت داوني، ومعدات جون ماتيسون وكامل فريق الممثلين والفنيين والتقنيين كانوا على أهبة الاستعداد لاصطحابنا في رحلة زمنية إلى حقبة الستينات، حيث الازياء المتقنة والاكسسوارات الدقيقة والديكورات والمباني الراقية والسيارات العريضة الفخمة، وهو ما أصبح نقطة إلهاء المخرج ماجعله يقدم عملا أقل بكثير من آخر محاولاته، التي بث فيها الروح إلى شخصية هولمز الذي اشرت اليه في الاعلى، في مزيج حافظ على نكهة الألغاز للروايات الأصلية لآرثر كونان دويل، مع تحابيش من عالم الأكشن والكوميديا المعاصر.
فالحوارات جاءت أقل حدة وقوة من أغلب أفلامه، الشخصيات أقل توهجاً والأحداث أقل تسلية، كما انحاز لجرعة الكوميديا على حساب جرعة الأكشن التى جاء أفضلها خلال مقاطع مطاردات السيارات والزوراق. نلاحظ أن ريتشي قدم نفس ما قدمه في أفلام هولمز، إنتاج معادل بصري حداثي باستخدام ألاعيب الجرافيك والمونتاج السريع الموسيقي الطابع، لمغامرات وأجواء زمنية كلاسيكية.
الفيلم من بطولة (هنري كافيل) في دور عميل المخابرات الاميركية نابليون سولو و(أرمي هامر) ويجسد دورعميل الاستخبارات السوفيتية إيليا كورياكين، يشاركهما البطولة من الجنس الناعم كل من (أليسيا فيكاندير) في دور جابي تيلير، (إليزابيث ديبيكي) بدور فيكتوريا فنشيجيرا.
جزء من تراجع المستوى يعود للأبطال كافيل وهيمر. كافيل أو سوبرمان الحالي في أفلام وارنر، نجم يتمتع بوسامة عالية، وقوام رياضي مثالي، لكن هذا لم يمكنه من أداء المطلوب لدور نابليون سولو، العميل الأميركي الأنيق الهادىء الواثق من نفسه. رغم هذا يظل أفضل نسبيا من زميله هيمر، فملامحه الصبيانية البريئة جاءت لتضعف دوره كعميل روسي في المخابرات والتى يتطلب كما تقدمه الأحداث درجات خشونة وعنف وغلظة طباع عالية، مطابقة للسمعة السائدة عن الروس. في اعتقادي أن الجنس الناعم كان أسعد حظا، رغم حصوله على مساحة زمنية أقل.
وبرغم تلك الأمور التى تنقص من تقييم الشريط، الا انه من غير المنصف ان لا أذكر الموسيقى التصويرية الأكثر من رائعة التي علقت في أذهاننا والتى لعبت دورا مهما تلك الرحلة الستينية، حيث طعم مشهدين أو أكثر بأغاني كلاسيكية أو مؤثرات صوت جذابة، كفلت لهم ثباتاً في الذاكرة . يبقى الطريف والجديد في قصة الفيلم أنه لا يطرح صراعا بين السوفييت والأميركيين كما تعودنا وإنما تعاونا بينهما.

احداث
داخل مرآب تصليح السيارات، يظهر العميل الاستخباراتي الاميركي نابليون سولو، يضع كفيه بجيوب بذته السوداء الكلاسيكية الانيقة، ويسأل الفتاة جابي تيلير العاملة بالمرآب، عن مكان والدها اودو الغائب عنها سنوات عديدة، وهو أحد المطلوبين أمنيا وكان مسؤول عن تجارب القنابل النووية لدى النازيين في الحرب العالمية الثانية.
لحظات ويتبين لنا أن المخابرات الاميركية ليست وحدها من تسعى وراء والد جابي، اذ يطل علينا العميل الاشقر إيليا كورياكين الذي ارسلته الاستخبارات السوفيتية لنفس المهمة.

عدو عدوي صديقي
تلك هي السياسة الأمثل لكسر شوكة النازيين، والتى تثمر عن تعاون اضطراري بين المخابرات الأميركية والسوفيتية، حيث يتحد الثلاثي سولو وكورييكا والفتاة جابي، للوصول إلى والد الأخيرة، بعد أن تصلهم معلومات مؤكدة انه يعمل لدى منظمة إجرامية غامضة متعاطفة مع النازية، تتزعمها امرأة تدعى فيكتوريا فنشيجيرا وزوجها ألكسندر، تقوم بإنتاج ونشر الأسلحة النووية في العالم.
بتمثيلية صغيرة يكون فيها كورييكا خطيب جابي، يرافقهما من بعيد سولو كجامع للأثار، ينطلق الثلاثة الى العاصمة الايطالية روما، لبدأ المهمة. يكون في انتظار جابي وكورييكا، خالها الذي يعمل لدى المنظمة ايضا والمختص بأمور شحن اليورانيوم المشع، وعن طريقه سيصلون الى اودو، بحجة أن ابنته تود الزواج من خطيبها ولا تريد لذلك أن يحدث في غياب والدها. في الناحية الثانية نجد سولو الذي كان يعمل لصا محترفا فيما مضى، يحاول اثارة اعجاب فيكتوريا بطريقته الخاصة. بهدف التقرب منها ومعرفة مخبأ السلاح المزمع إنتاجه.

يو.إن.سي.إل.إي
قبل أن يصطحبها رودي وألكسندر للقاء والدها، توشئ جابي عن رفيقيها الاستخباراتيين، لإظهار حسن نيتها والوصول إلى والدها بدون تعقيدات، ولكنها في الحقيقة تنفذ خطتها فهي في الاساس عميلة ضمن الاستخبارات البريطانية تسعى للوصول الى والدها واقناعه باستبدال أحد القطع المستخدمة في صناعة السلاح. لكن فكتوريا تكون لهما بالمرصاد، فتقتل اودو بعد تجهيز سلاحها النووي. وحين تعلم أن منظمة الـ يو.إن.سي.إل.إي قد بدأت بمحاصرتهم تأخذ جهاز التحكم عن بعد الخاص بالنووي وتلوذ بالفرار في قارب خاص برفقة مجموعة من حراسها، متوعدة بنهاية مدمرة للعالم بعد مقتل زوجها في المطاردات، حينها تبدأ المنظمة بمحاولة اقتفاء أثرها، وحتما بخبرة استخباراتية اميركية كما عودتنا هوليوود، يتمكن سولو من رصد قاربها ويفجره بواسطة صاروخ.
رجل من يو.إن.سي.إل.إي، فيلم جواسيس مرح مليئا بالأجواء الستينية الشيقة، ولكن بالنظر الى تلك النوعية من الافلام في جدول عام 2015، الذي تضمن سابقا فيلم المغامرات الكوميدي (Spy) والجزء الخامس من (Mission Impossible). وسيتضمن قريبا (Spectre) أحدث أفلام بوند، بالاضافة الى فيلم المايسترو سبيلبرج والمتألق دوما توم هانكس (Bridge of Spies)، يبدو انه كعمل سيىء الحظ من حيث التوقيت. لذلك اعتقد ان ريتشي سوف يقدم لنا جزء ثاني من جواسيسه الثلاثة، أفضل من الذي شاهدناه، خاصا أن نهاية الشريط لم تكتفي بانتهاء المهمة الموكلة اليهم فقط، بل أن المنظمة أوكلت إليهم مهمة جديدة لم تكشف عن تفاصيلها.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]