[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” نعم ! نحن نعيش ثورة حقيقية في العلاقات الدولية على إثر الانتهاء من الحرب الباردة مع سقوط جدار برلين 1989 وتهاوي المعسكر الشيوعي بلا حرب كما قال الرئيس الأسبق (ريتشارد نيكسن) في كتابه victory without war. هذه الثورة لم تكن ممكنة ولا حتى متوقعة لولا إمساك شخصيتين متميزتين بمنصب وزارة الخارجية في كل من واشنطن وموسكو وأقصد (جون كيري) و (سيرجي لافروف).”
ـــــــــــــــــــــــ
أعتقد والله أعلم أن العلاقات الدولية التي نعيشها باندهاش وانبهار باللحظة سوف يقرأها المؤرخون بعد ثلاثين سنة بشكل أوفر معطيات مع البعد الزمني عن جيلنا تماما كما قرأ جيلي أنا بنود معاهدة (سايكس بيكو)1916 وفككنا خفاياها وحللنا انعكاساتها. فالعلوم السياسية ليست علما صحيحا كالفيزياء أو الرياضيات أي ليس لها قواعد ثابتة ونظريات دائمة ولكنها علوم تكتسب بالمعايشة للحدث ومتابعة أثاره وجمع أخباره. وفي هذا الإطار أضع التحول العميق في العلاقات الدولية الذي ينجزه يوميا الوزيران للخارجية لأكبر دولتين هما الولايات المتحدة وروسيا مثلما حدث التحول الدولي بعد الحرب العالمية الأولى حين وقع وزيرا خارجية الدولتين الأعظم في ذلك العهد وثيقة تقاسم الشرق الأوسط وبالطبع لكل عصر ظروفه ومنطقه وقواه وقد انتقلت القوة اليوم الى أمبراطوريتين أخريين في كل من واشنطن وموسكو بعد خسوف الأمبراطورية البريطانية والأمبراطورية الفرنسية ونهاية المستعمرات وانحسار نفوذهما.
نعم ! نحن نعيش ثورة حقيقية في العلاقات الدولية على إثر الانتهاء من الحرب الباردة مع سقوط جدار برلين 1989 وتهاوي المعسكر الشيوعي بلا حرب كما قال الرئيس الأسبق (ريتشارد نيكسن) في كتابه victory without war. هذه الثورة لم تكن ممكنة ولا حتى متوقعة لولا إمساك شخصيتين متميزتين بمنصب وزارة الخارجية في كل من واشنطن وموسكو وأقصد (جون كيري) و(سيرجي لافروف). فالرجلان ينتميان إلى نفس الجيل (كيري مولود 1942 ولافروف 1950) وعاشا تقريبا نفس الهزائم التي منيت بها الأمة الأميركية والأمة الروسية حين خسرت الولايات المتحدة حرب فيتنام (وكان كيري مشاركا فيها ومناهضا لها بل دشن حياته السياسية برفض الحرب الأميركية على شعب فيتنام) أما لافروف فالتحق بالشأن العام مع انهيار المعسكر الشيوعي بقيادة موسكو على إثر هزيمة السوفيات في أفغانستان (وكان لافروف مساندا لحركة يلتسين الإصلاحية) ثم إنهما درسا كل على حدة العلوم السياسية وتاريخ العالم وكانا أصحاب مواقف إصلاحية انسجمت مع التغيرات الجذرية التي فرضتها العولمة على الأمم ثم مثلا بلديهما في المؤتمرات والمنظمات الدولية وتعرفا على الحقائق الجديدة الطارئة على العلاقات الدولية مع بزوغ شمس القرن الحادي والعشرين. الرجلان إذن رغم اختلاف البيئة السياسية التي ترعرعا فيها يظلان متشابهين وهو ما يفسر في تقديري الشخصي أداءهما المتقارب في إدارة الأزمات وما أوصل العملاقين إلى مرحلة التحالف بعد مرحلة التحارب
ومرحلة التصادق.
يوم الجمعة 18 سبتمبر 2015 تحادث بالهاتف وزيرا الدفاع الأميركي (أشتون كارتر) مع زميله الروسي (سيرجي شويكو) لتنسيق التحرك العسكري في سوريا! وهو ما أعلنه (جيمس كوك) و(ديمتري بسكوف) الناطقان باسم الحكومتين وهذا الاتصال الذي أوردته وكالات الأنباء بكل بساطة ودون تعليق كأنه خبر عادي عابر يشكل في الواقع زلزالا في العلاقات الدولية (10 درجات على سلم ريشتر السياسي) يستدعي التحليل بعد التعجب ويتطلب فك الطلاسم بعد الإندهاش! فمنذ سبعة شهور فقط وتحديدا في مارس 2014 كنا نتوقع اندلاع حرب مباشرة بين واشنطن وموسكو حول أزمة أوكرانيا! بعد أن تدخل جيش (بوتين) لإعادة ضم جزيرة القرم إلى أحضان اتحاد الجمهوريات الروسية بالرغم عن أنف واشنطن والغرب! ولم تقع حرب بل اكتفى الانفصاليون الأوكرانيون بزعامة (بوروشنكو) بالحدود التي اتفق عليها الروس مع حلف الناتو (في الحقيقة مع واشنطن) ورغم تواصل مناوشات متقطعة فإن ما يسمى في اللغة الدبلوماسية بالهدوء النسبي يستمر ويتدعم ويؤكد أن (كيري) و(لافروف) يدشنان عهدا جديدا من التفاهم الذي يوحي ببرنامج أميركي روسي مشترك لتقاسم مناطق النفوذ وإعادة رسم خارطة العالم على أساس القوتين الأعظم (التاريخ يعيد نفسه بعد قرن من معاهدة سايكس بيكو كما أسلفنا).
نأتي إلى الحلقة الثانية والأهم لمخطط (كيري لافروف) وهي المتعلقة بالاتفاق الحاصل حول الملف النووي الإيراني. قبلت واشنطن أن تشارك موسكو في كل مراحل المفاوضات بين طهران وما يسمى (الخمسة زائد واحد) مع العلم أن تسمية المفاوضين بالخمسة زائد واحد هو في نظري خطأ لأن الأسلم والأصح أن نسميهم بالأربعة زائد اثنان فالحلفاء الغربيون هم أربعة (أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا تجمعهم عضوية حلف الناتو) أما الاثنان الزائدان واللذان فرضا نفسيهما ومصالحهما فهما (روسيا والصين) ولكن للعلاقات الدولية نواميس لا تخضع للمنطق! هنا كانت بصمات كل من (الصديقين العدوين الحميمين كيري ولافروف) واضحة ساطعة حيث توصلت واشنطن
وموسكو إلى توقيع اتفاقية 14 يوليو 2015 في مدينة فيانا عاصمة النمسا مع وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، والعملاقان هما اللاعبان الرئيسيان في هذا الملف الشائك لأن مساهمة باريس ولندن وبرلين كانت رمزية في الحقيقة لا تتجاوز الكمبارس لسبب بسيط وهو أن العواصم الأوروبية الثلاثة ليست صاحبة مبادرة بل لا تشكل سوى رجع الصدى الأميركي وترديده دبلوماسيا وإعلاميا فحسب واكتفت هذه الدول الأوروبية بتسويق الملف النووي الإيراني لغايات السياسة الداخلية وكسب الأصوات للمحطات الانتخابية القادمة لا أكثر ولا أقل ثم إن مصالح الإتحاد الأوروبي الاقتصادية والأمنية مرتبطة أوثق الارتباط بالدعم والردع القادمين من واشنطن فلا غطاء للدول الأوروبية سوى الغطاء الأميركي خاصة وأن خوفها من التسلح النووي الإيراني تحول إلى هاجس أوروبي ثم إلى عقيدة الدفاع لدى دول عديدة في الغرب. أما الصين فهي بعيدة عن الملف الإيراني ولا تخشاه.
ونصل إلى التحالف الأهم والأقرب الينا بين كيري ولافروف والمتعلق بالأزمة السورية فنسجل أن حلقات المسلسل منطقية ومتتابعة دون خلل أو هفوة فالحالة السورية مستقرة (كاستقرار حالة مريض في غرفة الإنعاش) مما جعل موسكو تقفز على فرصة تفعيل معاهدة الدفاع المشترك بينها و بين دمشق فالوزير (المعلم) لوح بدعوة ممكنة للقوات الروسية للتدخل على الأرض وهو ما أجبر واشنطن على تعديل موقفها من نظام الأسد مؤقتا وتحديد العدو المشترك بين كل من واشنطن وموسكو
وطهران ودمشق وهو تنظيم داعش الذي نشأ وترعرع وتمدد خارج الأطر الدولية التقليدية ! أي إنه أشبه بجسم غير محدد الهوية قادم من كوكب أخر! و هذا ما يطرح قضية أخرى أشد تعقيدا.