ارتكزت السياسة الخارجية للسلطنة على الأسس والمفاهيم التي أرستها نهضة عُمان الحديثة تلك الأسس والمفاهيم التي تتخذ لنفسها عناوين واضحة لا لبس فيها، تأخذ بمنهج التسامح والتفاهم، وتعزيز آلية الحوار السلمي لحل كافة المشكلات التي تعترض سبيل الأهداف الإنسانية الكبرى التي تسعى إلى تحقيقها كافة المؤسسات الدولية كي تعيش البشرية في أمن وأمان وتفاهم ضمن منظومة عيش مشترك تحترم حقوق كافة الأطراف، وتحترم احتياجاتها ومصالحها.
ولأن سياستنا الخارجية أخذت هذا المنهج من التسامح، لذلك كان التماس بعض التنازل من كافة الأطراف لتقريب وجهات النظر والتوصل إلى حلول ناجعة للمشكلات المثارة أمرًا مهمًّا، وقدمت بلادنا المثل والقدوة في ذلك من خلال حل خلافاتها الحدودية مع كافة دول الجوار الشقيقة والصديقة، ما عزز من أواصر القربى والمودة مع تلك الدول كطليعة لنهج السلطنة مع كافة دول العالم. ومن ثم استفادت سياستنا الخارجية من هذا المنهج الناجح في العمل على التقريب بين الأطراف الدولية المتنازعة حول قضية ما، إذ يوقن العمانيون أن العالم صار متقاربًا إلى حد لا يبرر العزلة عن الأحداث السيارة في مختلف المناطق الملتهبة، بل يؤمنون بأنه يجب أن يكون العالم متقاربًا متحابًّا، تسوده الألفة والمحبة والتعاون والتآلف والاحترام وتبادل المصالح والمنافع، وحل أي خلاف إذا ما عرض بالوسائل السلمية وبالحوار.
ولما كانت قضية الأمن والسلم الدوليين من الأهمية بمكان في ظل الطغيان المشاهد للسلوكيات الشاذة على سياسات قوى دولية مؤثرة، فإن السلطنة تؤكد ثباتها على موقفها السياسي الراسخ ونهجها الثابت بتجديد حرصها على لغة الحوار لكونه القاعدة الطبيعية للتعاطي مع القضايا الخلافية كافة، خاصة وأن النزوع إلى استخدام الوسائل المناقضة للحوار كالقوة والعنف والغلو والإرهاب، سواء في تحقيق المصالح والأهداف أو في معالجة النزاعات والمواجهات أثبت خطأه وكارثيته ليس على طرف فحسب، بل على جميع الأطراف على حد سواء؛ ولهذا لا تزال تؤمن السلطنة قيادة وحكومة وشعبا أن مفتاح الحلول وتعزيز الأمن والسلم الدوليين يتحقق عبر الأمم المتحدة وعبر الشرعية والقانون الدولي وعبر احترام الجميع لهذه الشرعية الدولية وهذا القانون الدولي، وأهمية التعاون مع المنظمة الدولية ومؤسساتها. فقد حافظت سياسة السلطنة ـ ولا تزال ـ على قيم الشراكة والتعاون مع جميع الدول دون استثناء ومع جميع المنظمات والمؤسسات والتجمعات الدولية وفق أسس عملية واضحة تتخذ من الاحترام المتبادل وحل قضايا الشعوب بالحوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام المصالح المشتركة ركائز لها.
وكلمة السلطنة في الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة والتي ألقاها معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية أمس جاءت في ظرف دقيق تمر به المنطقة العربية خاصة وبقاع من العالم عامة، جراء ما يعصف بها من حروب واستشراء الإرهاب وتنامي تنظيماته مشكِّلةً تهديدًا حقيقيًّا لاستقرار المنطقة والعالم أجمع. وأمام الواقع الخطير، حرصت السلطنة على أن تؤكد خبرتها وتجربتها السياسية التي أصبحت معروفة لدى القاصي والداني ومدى نجاحها لما ارتكزت عليه من أسس ثابتة، ما أعطاها المصداقية والقبول وأكسبها الاحترام، فكان ـ بكل فخر ـ الاتفاق النووي بين المجموعة الدولية "5+1" من بين أبرز نجاحات السياسة العمانية وأدوارها المشهودة في التقريب بين وجهات النظر وإصلاح ذات البين، بما ينعكس إيجابًا على الأمن والسلم والاستقرار في العالم، إذ إن "هذا الاتفاق يقدم نموذجًا لحل القضايا الخلافية الشائكة بين الدول على أساس قاعدة الحوار والمفاوضات وتنظيم المصالح الدولية". ولا شك، أن الإرادة التي أنتجت هذا الاتفاق قادرة على إنتاج اتفاقات مماثلة وناجحة في حل القضايا التي تعطل مسيرة التنمية وتثقل كاهل الشعوب، كما هو حال الأوضاع في فلسطين وسوريا واليمن. فالشعب الفلسطيني لا يزال يتطلع إلى إرادة دولية تنصفه وترجع إليه حقوقه المغتصبة، وكذلك الحال في سوريا واليمن، فالأفرقاء السياسيون في سوريا واليمن هم قادرون على تجنيب بلديهم من مخاطر الإرهاب والعنف وغيرها، من خلال التجاوب والعمل البناء مع المبعوثين الأمميين في سوريا واليمن، وعلى المجتمع الدولي أن يساعد في هذا الاتجاه من منطلق المسؤولية الأخلاقية.
ومن مفاخر الدبلوماسية العمانية، أنها سبق وأن قدمت نماذج مشرفة من المساهمات في وضع حلول لمشكلات دولية في مجالات أخرى مثل قضايا البيئة وسبل معالجة التحولات المناخية وتوابعها وآثارها على البشر في مختلف بلدان العالم، واكتسبت بلادنا أيضًا في هذا المجال سمعة عريضة، انطلقت من تراكمات الخبرة العمانية خلال خمسة وأربعين عامًا من العمل من أجل صالح الإنسان في بلادنا وفي مختلف البلدان، بصفته محرك الحياة على الأرض وهدف كل مشروع سلام أو برنامج تنمية وتحديث.
إن المكانة الرفيعة التي تحظى بها سياسة بلادنا ورؤيتها في معالجة القضايا والمشكلات التي تواجه البشرية إنما تعكس رقي بلادنا وتحضرها وتعبرعن حنكة قائد مسيرة نهضتنا المباركة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظ الله ورعاه ـ الذي وضع وأرسى أسس هذه السياسة.