[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
”بيد أن الهجرة من الريف إلى المدينة وتشبث الفلاحين باهتمامات سوى زراعة الأرض وحرثها قد أدت إلى ضمور الزراعة والإنتاج الحيواني العراقي، مقابل تصاعد سريع بنسب زيادات السكان، الأمر الذي قاد إلى اعتماد العراق بشكل كامل على استيراد المنتجات الزراعية والحيوانية لتغذية كتلة سكانية تزيد على ثلاثين مليون نسمة الآن!”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما اعترض أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي على تقديم حكومة الولايات المتحدة الأميركية المعونة المالية والعينية للعراق، أواسط القرن الماضي، فإنه برر اعتراضه بدعوى أن العراق فيه نهرين عظيمين، دجلة والفرات، وأنه بدرجة من الغنى والخصب تجعله أقرب ثراءً الى الولاية الذهبية، أي كاليفورنيا، من حيث الإمكانيات الزراعية والاقتصادية. للمرء أن يرتجع الى هذه الحادثة البسيطة وهو يغرق في سوداوية الأمن الغذائي في العراق والدول العربية عامة الآن.
وإذا كان هذا السيناتور لم يزل حياً، فانه لا بد أن يشاركني ذات السوداوية اليوم، نظراً لما تعانيه "بلاد الرافدين" من تصحر وزحف للكثبان الرملية درجة خنق مدن العراق التاريخية العظيمة، كبغداد والبصرة، سامراء والموصل، إذ لا يمر يوم دون زيارة للعواصف الترابية العادمة للرؤية، للأسف. ومرد هذه الظاهرة الخطيرة التي تحاصر مدناً عربية عظيمة أخرى، يكمن في تراجع مساحات الأرض المزروعة والمروية ديماً أو مطراً، ناهيك عن أن زحف الكثبان الرملية من البادية الذي أدى الى جرف الغلاف الطبيعي الأخضر للتربة المحاذية للنهرين أعلاه.
لقد قاد انحسار الزراعة في واحدة من أكثر بقاع الأرض خصباً، اي العراق، الى معضلات طبيعية وبيئية مزمنة وطويلة الأمد، للأسف. وإذا كان المرحوم عبد السلام عارف، رئيس الجمهورية السابق، قد وعد فلاحي الفرات الأوسط الذي خرجوا للترحيب به، بـ"مرة وسيارة وتفكة" (أي زوجة ثانية وسيارة وبندقية) جزءاً من حملة إعلامية للترويج لقانون الإصلاح الزراعي، فإن المعطيات النهائية لهذا القانون ولتطور الأحداث في العراق قادت إلى أن يستورد العراق كل منتج زراعي في نهاية المطاف، بعد أن كان هذا البلد يصدر أفخر التمور وأندر أنواع الرز في العالم، ناهيك عما سواها من المنتجات الزراعية الوفيرة.
بيد أن الهجرة من الريف إلى المدينة وتشبث الفلاحين باهتمامات سوى زراعة الأرض وحرثها قد أدت الى ضمور الزراعة والإنتاج الحيواني العراقي، مقابل تصاعد سريع بنسب زيادات السكان، الأمر الذي قاد إلى اعتماد العراق بشكل كامل على إستيراد المنتجات الزراعية والحيوانية لتغذية كتلة سكانية تزيد على ثلاثين مليون نسمة الآن!
ألاحظ هذه المتغيرات في العراق، وأوجه نظري على مأساة الأغذية المستوردة التالفة التي اضحت (في العراق وفي عدد كبير من الدول العربية) من المعضلات المستعصية التي لا تودي بحياة السكان فقط، وإنما تترك آثارها طويلة الأمد على الأجيال الصاعدة كذلك، أما على نحو "مسرطن"فوري ومباشر القتل، أو على نحو مسرطن لا تظهر آثاره فوراً، لأن تلوثه يحتاج لأن يترسب في أنسجة جسم الإنسان على نحو تدريجي، فيؤجل عملية اعدام المستهلك إلى آن آخر يعلن في حينه، للأسف.
وتعد تجارة الأغذية الفاسدة في عالمنا العربي والشرق أوسطي عامة أحد أخطر وأهم نتائج العزوف عن الزراعة والاعتماد على استيراد المواد الغذائية، بل وحتى استيراد قوارير وقناني الماء، للأسف.
تكمن خطورة استيراد الأغذية الفاسدة في أنها من أقصر وأسرع الطرق للثراء للسحت الحرام، الأمر الذي يفسر اتجاه أعداد لابأس بها من العاملين في التجارة إلى هذا النوع من المستوردات المضمونة الأرباح، خاصة مع ضعف وعي المواطنين العرب بالمعايير الطبية والصحية الدقيقة، ناهيك عن تعطيل أجهزة الرقابة الصحية من قبل "مافيات" الأغذية الفاسدة والمنتهية الصلاحية، إعتماداً على الرشى أو سواها من أدوات الفساد الإداري والمالي.
المخيف في مافيات الأغذية الفاسدة عبر أغلب بلدان الشرق الأوسط، يتلخص في أنها تتألف من شبكات فساد كبيرة متسلسلة وهرمية التشكيل. هي شبكات تضم بعض التجار من معدومي الضمائر، كما تضم كذلك أعداد من رجال الدولة الفاسدين، وهي لا يمكن أن تعمل دون "التشبيك" على أعداد من العاملين في الأجهزة الأمنية وفي أجهزة العدل وفرض القانون، الأمر الذي يجعل عملية اجتثاث هذا النوع من شبكات الأغذية الفاسدة من اصعب المهمات على الحكومات وعلى المصلحين.
تؤدي مافيات الأغذية الفاسدة أعمالها الحرام على نحو تسلسلي، يبدأ من رأس الهرم الحكومي، ولا ينتهي إلا عند قاعدته المكونة من جمهور المستهلكين المساكين، أي الضحايا النهائيين.
ومع ضعف أجهزة الرقابة والتقييس والفحص الصحي تغدو عمليات الفساد من هذا النوع المدمر يسيرة للغاية، لأنها قد لا تحتاج لسوى قطع ورقية مطبوع عليها عبارات من نوع "صالح للاستهلاك البشري"، ناهيك عن عمليات العبث والتلاعب بتواريخ انتهاء صلاحيات المواد الغذائية الفاسدة، وهي ظواهر شائعة في عدد من دول عالمنا الثالث والعربي عامة، إذ تصعب مهمات الإمساك برأس هرم المافيا الفاسدة، أما لأن هذا الرأس هو عنصر حكومي ذو نفوذ عال أو لأنه بدرجة من السطوة أنه يتمكن من نقل مسؤولية العمليات الفاسدة من إدانة نفسه الى إدانة موظف صغير يقبع في دواخل المافيا لتفادي المحاسبة القانونية، بل ولتمرير المزيد من المواد الغذائية الفاسدة الى المستهلك المسكين، الذي لا يفهم أحياناً حتى قراءة تواريخ انتهاء الصلاحية في معظم بلداننا، للأسف.