أعتقد أن الإحاطة العامة بقضية المصطلحات العلمية توجب القول إن هذه المصطلحات تمرّ بثلاث مراحل مهمّة: مرحلة وضع المصطلحات، ومرحلة توحيدها، ومرحلة تعميمها واستعمالها. والمرحلة الأولى أكثر هذه المراحل خطراً وارتباطاً باللغة، في حين تُعدُّ المرحلة الثالثة هدفاً رئيساً من أهداف المجتمع الراغب في استيعاب العلم.
لقد شعر العلماء العرب في الحقول العلمية المختلفة أنّ وضع المصطلحات العلمية باللغة العربية واجب قومي فرضه عليهم إيمانهم بضرورة مواكبة المدنيّة الحديثة. ومن ثَمَّ راحوا يُلْحقون بخواتيم كتبهم العلمية مسارد بالمصطلحات التي وضعوها بغية الإفادة منها. وكان ذلك فاتحة الجهود الفردية في وضع المصطلحات العلمية باللغة العربية، تلتها مرحلة أخرى هي جمع هذه المصطلحات في معجمات علمية اختصاصية، منها:
قاموس طبي فرنساوي عربي، للدكتور محمود رشدي البقلي، باريس 1869، معجم انجليزي عربي في العلوم الطبية والطبيعية، محمد شرف، الطبعة الثانية1929 (الطبعة الأولى: 1927). معجم الفيزياء، الكتور جميل الخاني (ملحق بكتاب: القطوف الينيعة في علم الطبيعة). ومعجم الألفاظ والمصطلحات الفنية في فن الجراثيم، الدكتور أحمد حمدي الخيّاط، دمشق 1934 .معجم في أمراض الجملة العصبية، د. حسني سبح، دمشق 1935. معجم في الأمراض الإنتانية والطُّفيليّة، د. حسني سبح، دمشق 1936 . معجم في أمراض جهاز التّنفُّس، د. حسني سبح، دمشق 1937 . معجم الألفاظ الزراعيّة، الأمير مصطفى الشِّهابي، دمشق 1943 . هذا غيض من فيض المعجمات الاختصاصيّة التي صنعها علماء عرب بجهودهم الفرديّة وضمّنوها المصطلحات العلمية التي وضعوها استناداً إلى خبراتهم في العلم الحديث الذي تخصّصوا فيه. وقد تفاوت نصيب هذه المعجمات من الدقة ومجانبة الصواب في أثناء اختيار المصطلح الملائم للتصوُّر العلميّ، وهذا ما دفع أصحابها ومَنْ تلاهم من العلماء إلى الإيمان بضرورة تلاقح الخبرات في أثناء وضع المصطلحات. وهكذا ظهرت معجمات أخرى اشترك في وضع مصطلحاتها باللغة العربية عالمان أو ثلاثة أو أربعة، كما هي حال (معجم المصطلحات الطبية الكثير اللغات) لكليرفيل (1956)، و(المعجم العسكري الموحِّد) (1961)، و(معجم المصطلحات الحراجيّة) (1962). وكان هذا التعاون بداية التخلّي عن العمل الفردي والاتجاه إلى العمل الجماعي وتلاقح الخبرات في وضع المصطلح باللغة العربية. ثم انتقل العمل في وضع المصطلحات خطوة أخرى مفادها تأليف لجان تعمل برعاية إحدى الجهات الرسمية أو المجامع اللغويـة العربية. وقد ظهرت نتيجة ذلك معجمات ومجاميع من المصطلحات تتسم بنصيب كبير من الدقة، كمعجم (المصطلحات الفنية) الذي أصدره التدريب المهني للقوات المسلّحة المصريّة عام 1962، ومجموعة المصطلحات العلمية والفنية التي أقرّها مجمع اللغة العربية في القاهرة (صدر منها ثلاثون مجلداً ابتداءً من عام 1957)، والمجلدات التي نشرها المجمع العلمي العراقي بعنوان: مصطلحات علمية (صدر منها سبعة مجلدات ابتداءً من عام 1982)، ومجاميع المصطلحات التي نشرها مجمع اللغة العربية الأردني، والمكتب الدائم لتنسيق التعريب في الرباط، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
ومن البديهي في أثناء ذلك كله، أن ينمو علم المصطلح أو (المصطلحيّة)، وأن يهتمَّ علماء المصطلحيات العرب ضمن هذا العلم بوضع المصطلح، بمعنى (الفعاليات المتصلة بجمع المصطلحات وإعدادها وتحليلها وتنسيقها ومعرفة مرادفاتها وتعريفاتها باللغة ذاتها أو مقابلاتها بلغة أخرى. وكذلك جمع المفاهيم الخاصة بحقل معيَّن من حقول المعرفة، ودراسة العلاقة بين هذه المفاهيم، ثم وصف الاستعمال الموجود فعلاً للتعبير عن المفهوم بمصطلح ما، أو تخصيص مصطلح معيَّن للمفهوم الواحد). أما قواعد وضع المصطلح فقد تكاملت شيئاً فشيئاً ، وتعاورتها أقـلام المهتمين بهذا الحقل المعرفي، وشرعت تُطبّقها بمرونة ، منطلقة من قيد أساسي هو أن يندمج المصطلح الجديد في بنية اللغة العربية، وألا يؤثّر فيها تأثيراً سلبياً. ولهذا السبب فضَّل العلماء المجاز على الاشتقاق، والاشتقاق على الترجمة، والترجمة على التعريب، وحدّدوا معايير فرعيّة لا بدَّ من مراعاتها، منها : وتوخِّي المعنى الاصطلاحي للفظ الأجنبي، ووَضْع المصطلح لأدنى علاقة بالدلالة العلمية، وترجمة المصطلح حرفياً إذا طابق معناه اللغوي معناه الاصطلاحي، وتفضيل المصطلح المؤلَّف من كلمة واحدة، وتجنُّب تعدُّد المصطلحات للدلالة العلمية الواحدة، وعدم تغيير المصطلح الشائع إذا كان عربياً صحيحاً بحجة عدم استيعابه المعنى كله، وتصحيح المصطلح الذي فيه خطأ صرفي أو لغوي، وتجنُّب اشتراك الدلالة في المصطلح الواحد، وتفضيل المصطلح العربي على الدَّخيل، والإفادة من الألفاظ المهجورة أو المماتة، وتجنُّب الألفاظ المتنافرة الحروف، وتحرِّي أكثر من لفظ أجنبي في أثناء وضع المصطلح العربي.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]