[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/kazemalmosawy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]كاظم الموسوي[/author]
” تشير أغلب الأخبار عن هذا الوباء في العراق إلى الأزمات والصراعات السياسية التي تتحكم في ادارة البلاد ومصير الشعب، والى تفاقم المعاناة من سوء الادارة والفساد والخدمات الصحية والعامة الأخرى التي هي المهمات الأساسية للسلطات المركزية او المحلية. حيث لا يصدق أمر هذه الأمراض وانتشارها في العراق اليوم ”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يتعرض الشعب العراقي في الراهن الملتبس الى كارثة أخرى، الى وباء آخر.. لم يكفه نجاح خطط اجتياح ما سمي بتنظيم داعش لمدنه، وبعد الغزو والاحتلال الصهيو اميركي عام 2003. هذه الآفة الجديدة غزت مدن العراق الوسطى والجنوبية والعاصمة بغداد، وكأنها رديف لتنظيم داعش الذي سمح له بالسيطرة على مدن الغرب والشمال الغربي من العراق، وتقاسما أرض الرافدين او اتفق "مشغليهما" على هذا الامر للأسباب التي دفعت او مهدت بأي شكل من الاشكال الى الهيمنة والاختلال والاحتلال، سواء في العراق او في المنطقة كلها.
تتضارب الارقام في اعداد المصابين بهذا المرض وكذلك الأعمال والمساعي لمعالجته والتخلص منه. ومازالت الأخطار منه متحركة وتتزايد يوما بعد آخر، مما يشير الى خطوات أشبه بما قام تنظيم داعش في زحفه وسيطرته. وإذا كان تنظيم داعش قد توفرت له الظروف والخطط والتجهيز والبيئة فان هذا المرض الاخر يفضح دور ووظيفة السلطات الرسمية وسياسات الدول الكبرى التي غزت واحتلت ودمرت مؤسسات العراق ولم تقدم له ما يستطيع ان ينهض بما يتوجب عليه الآن لمكافحة هذا المرض والحيلولة دونه وغيره من الآفات الفتاكة. والمرض ليس جديدا بمعنى ما، فقد تكرر انتشاره في العراق في فترات سابقة وظروف أخرى، كانت فيه البلاد في حالات غير ما هي عليه الآن، او المفروض ان تكون. وقد يكون خطيرا اذا لم تنتبه له الجهات الرسمية وتعالجه بالسرعة المطلوبة وتوفر المضادات له وتعمل على التخلص من أسبابه وبيئته وعوامل انتشاره. وهي كلها بيد السلطات الرسمية والدول التي احتلته ودمرته وتفرجت عليه، ومازالت منذ غزوها ولحد الان.
تشير أغلب الاخبار عن هذا الوباء في العراق الى الأزمات والصراعات السياسية التي تتحكم في ادارة البلاد ومصير الشعب، والى تفاقم المعاناة من سوء الادارة والفساد والخدمات الصحية والعامة الأخرى التي هي المهمات الأساسية للسلطات المركزية او المحلية. حيث لا يصدق أمر هذه الأمراض وانتشارها في العراق اليوم، وبعد كل التقدم العلمي والتطورات التقنية وثورات الاتصال والثقافة العلمية وغيرها أن تسمع او تقرأ انتشار مثل هذه الأمراض.
رغم تصريحات مسؤولي وزارة الصحة وتأكيدهم على أن "مرض الكوليرا في المحافظات كافة تحت السيطرة، وتم تزويد المحافظات بملايين من حبوب الكلور لتعقيم المياه". وان نسبة كبيرة من المصابين قد تماثلوا للشفاء. و"المرض موسمي ولم يتحول إلى وباء، وتجرى السيطرة على الحالات المصابة"، مشددين على "ضرورة التحقق من صلاحية مياه الشرب واحتوائها على مادة الكلور المعقمة". الا ان المشكلة لا تنتهي عند هذه الحدود فالمرض معروف في العراق وجيرانه. ولا تزول الكارثة برغبة او تصريح رسمي، وخصوصا في العراق الان، حيث تتفاقم الأزمات على جميع الصعد، السياسية والاقتصادية والثقافية، مترافقة مع الفساد وسوء الخدمات او انعدامها، لاسيما في فقدان الحصول على المياه النقية الصالحة للشرب، اذ تشير دراسات ان ما يقارب 70 في المائة من السكان لا يحصلون عليها، وان 17 في المائة فقط من مياه المجاري تعالج قبل صرفها في المجاري المائية، وتفتقد شبكات المجاري في اغلب المدن، وكذلك معامل المعالجة وغيرها. وتذكر منظمات دولية كاليونيسيف عن أن تفشي المرض يدل على أن ملايين العراقيين يعيشون بدون الضروريات الحياتية الأساسية كالمياه النقية، وهم بحاجة ماسة للمساعدة الإنسانية. وإن إعادة تخزين إمدادات العلاجات التي تساهم في إنقاذ الحياة كالزنك والأملاح المضادة لحالات الإسهال أمر في غاية الضرورة أيضا.
ليست مقارنة، وانما للتذكير او للاعتبار، ما حصل في التاريخ وما يحصل اليوم خطر مقلق لمن يعنيه الامر ويشغله الحدث، وتعصر قلبه ابعاد الكارثة. فالتاريخ قد سجل لنا روايته عن أوبئة توالت على العراق بمعدل مرة واحدة كل عشر سنوات، حسب ما تناوله الدكتور علي الوردي في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ونقل في هذا السياق من مذكرات المبشر الانجليزي غروفز عن مشاهداته للطاعون الذي اجتاح بغداد عام 1831، والتي نشرها في كتاب عام 1832 بلندن، ذاكرا (ان عدد الموتي أخذ يتزايد يوما بعد آخر حني بلغ تسعة آلاف في اليوم الواحد. ويقول: إن الموت قد أصبح الآن مألوفا بحيث ان الناس صاروا يدفنون أقرب الناس اليهم من دون اكتراث يعتد به، كما لو كانوا يقومون بعمل اعتيادي. وعندما كان غروفز يتجول بالطرقات لم يصادف في طريقه اي انسان، عدا الذين كانوا يحملون الجثث والأشخاص المصابين بالطاعون الوبيل. وكانت صرر الملابس من مخلفات الموتى ملقاة بالقرب من كثير من الأبواب. وبدلا من ان تدفن الجثث حسب مراسيم الدفن المعتادة، صارت تلقى على ظهور الحمير والبغال ثم تؤخذ لتدفن في حفرة من الحفر. ووصل الحال أخيرا ان يسقط الناس في الطرقات، فتأتي الكلاب تنهش أجسامهم وربما كان بعضهم اثناء ذلك لا يزال يعالج سكرات الموت ... وكان أشد المناظر إيلاما وإزعاجا وجود المئات من الأطفال الصغار في الطرقات، والكثيرون منهم لا يزيد عمرهم على عشرة أيام، وهم يتصارخون فيختلط صراخهم بزمجرة الكلاب التي كانت تنهش جثث الموتى.
أليست هذه الصورة المنقولة من أقل من قرنين من الزمان هي عين المأساة وصورة المحنة التي يعشها الشعب العراقي ولو بأشكال اخرى؟. وكأنها تقول بدلالات اعادة الأحداث التاريخية. وفي كل الأحوال هذه أرقام مخيفة وأعداد مرعبة، السابقة والحالية، والاخيرة مخجلة ومثيرة واختبار للمسؤولية والادارة.. ألا تحرك ضميرا واهتماما وغضبا وتستثير همة ومدافعة إنسانية لإنقاذ العراقيين من عواقبها وخساراتها القادمة؟، ومتى يشعر العراقي بأن أوجاعه أصبحت محفزا لغيره في الانقاذ والخلاص؟. ومتى... متى يعيش العراقيون بدون كوارث ومحن ومآس؟!.