[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]
الفعاليات الانتفاضية الأخيرة الجارية والمُستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وحتى في الداخل المحتل عام 1948، والتي هزّت العالم، استعادت فلسطين بها مناخاتها وأجواءها، فتحطّمت على صخرة النهوض الشعبي الفلسطيني العارم أوهام بنيامين نتنياهو بإمكانية تركيع الشعب الفلسطيني وتبليعه صيغة الوضع القائم مع استمرار نهب الأرض وتهديدها واستيطانها، وعادت مطالب الشعب الفلسطيني في فلسطين والشتات، إلى الواجهة... أي جلاء الاحتلال والاستيطان بشكلٍ كامل عن الأراضي المحتلة عام 1967، وضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم عملًا بقرار الأمم المتحدة رقم 194. فالدماء الفلسطينية النازفة تُعلن بشكلٍ أو بآخر سقوط سلام التسوية المُختلة، وتُعلن أيضًا استحالة الوصول إلى تسوية شاملة أعمدتها قرارات الشرعية الدولية دون القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين وتقرير المصير بدولة مستقلة عاصمتها القدس.
لقد أَظهَرَ شَعبُ فلسطين بهباته الأخيرة، الاحتياطي الهائل للشجاعة والجرأة والإقدام والاستعداد للتضحية من أجل حرية وطنه، والذي اعتقد أعداؤه أنه أُخمِدَ أو استكان تحت طبقات من اليأس والتراجعات المُتكررة الناجمة عن الاتفاقيات البائسة المُتلاحقة التي تَمَ فَرضَها على الفلسطينيين، وسياسات البطش والابتـزاز "الإسرائيلية"، والتدهور العام في الأوضاع الحياتية للناس، واستمرار تفكك وتراجع الوضع العربي ووصوله إلى أسوأ حالاته. فالشعب الفلسطيني المُثخن بالجراح ينطلق من جديد في هبة شعبية كُبرى في مواجهة الاحتلال، وهو يعيش ظروفا قاسية واستثنائية تحيط به داخل فلسطين، من مصاعب حياتية/ اقتصادية، ومن مصاعب الإغلاق وحصار الاحتلال، وارتفاع أرقام معدلات البطالة التي فاقت نسبة (55%) بين القوى العاملة في قطاع غزة والضفة الغربية وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني في رام الله.
وفي هذه المرة، يَخرُج الشعب الفلسطيني إلى الشارع ليقول بقوة للذين اعتقدوا بموت حركته الوطنية وتراجع أهدافه المشروع وحلمه الوطني، أن لا شيء يُمكن أن يَمُر من وراء ظهره وعلى حساب حقوقه الأساسية، وإن إرهاب نتنياهو ومجموعات المستوطنين سيلقى نفس مصير عمليات الإرهاب السابقة التي مارستها حكومات وعسكريون "إسرائيليون" تعاقبوا على مواقع القيادة وسعوا لإخماد إرادة التحرر الفلسطينية واصطدموا بجدار الصمود الفلسطيني الشعبي.
إن الموقف الشعبي العربي رافعة النضال الفلسطيني، في سياق الصراع القومي العربي مع المشروع التوسعي الصهيوني، لكن هذا الموقف ما زال غائبًا الآن في ظل الأزمات الطاحنة التي تَشهدها المنطقة العربية في أكثر من مكان، وحالة الانشغال بملفات داخلية أكلت الأخضر واليابس في العديد من البلدان العربية. فالرافعة العربية والحاضنة الشعبية العربية للعمل الانتفاضي الفلسطيني في الداخل غائبة ومُغيّبة في ظل حالة التفكك والانقسام العربي ـ العربي.
وبمطلق الأحوال، وبلغة موضوعية بعيدة عن العواطف والمشاعر، فإن العامل القومي العربي والبعد الإسلامي، رافعة لا بُد منها في الصراع مع الاحتلال والغزو الصهيوني، وتطوير آفاق هذا الصراع مع الاحتلال، وعلى طريق إنجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية ككل وحماية الذات العربية أمام الغزو الكولونيالي التوسعي الصهيوني.
ومع هذا، إن حركة الشارع في فلسطين المحتلة، ونزول الناس لمقارعة الاحتلال بأجسادهم، وبالحجارة، تَنقُلُ عمليًّا صراع مفاوضات التسوية الغارقة في سباتها أصلًا، من أروقة قاعات الاجتماعات والاتصالات السرية وكواليس الغرف المُغلقة إلى الشارع حيث القول الحسم لحركة الشعب الفلسطيني أولًا وأخيرًا.
من هنا أهمية المبادرة من جميع القوى الفلسطينية في فلسطين لتكريس الوحدة الوطنية على الأرض لأوسع صف من القوى الوطنية بتلاوينها (الوطنية، القومية، الإسلامية، اليسارية...). والانخراط الفلسطيني النَشط والمُبادر في جميع التحركات السياسية والدبلوماسية والإعلامية على كل المستويات ربطًا بالتأكيد على استحالة التسوية في ظل الاستيطان واغتصاب القدس والتنكر لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة طبقًا للقرار الدولي 194.
إن المُعطيات الجديدة التي ولدتها الحراكات الشعبية المستمرة في الداخل الفلسطيني يُفترض أن تُستتبع على الفور باستراتيجية فلسطينية ينبغي أن تَصُب في مجرى إدامة العمل والفعل المؤثر بأشكاله المختلفة (الدبلوماسي السياسي، الإعلامي، الانتفاضي الجماهيري..) من أجل الخلاص من صيغة التسوية الراهنة وتجاوز أشلاء تسوية أوسلو التي تَهَشّمت بفعل نزول الناس للشارع في فلسطين، وبناء نهجٍ جديد عماده استراتيجية مغايرة، تتطلب معارك ومعارك قاسية مع الاحتلال، وتتطلب دورًا عربيًّا فاعلًا ينتقل من المواقف اللفظية الآن إلى مواقف أكثر عملية وملموسية، بحيث يُشكّل الوضع العربي والإسلامي حاضنة لتمكين الشعب الفلسطيني من الاستمرار في فعله الكفاحي على الأرض وصولًا إلى أهدافه في قلب المعادلة التفاوضية المُختلة وإعادة تصحيحها.
إن اندفاع الشعب الفلسطيني الصغير في عدده، وعطاءه الذي فاق كل تصور يؤشر إلى حيوية الشعب واستماتته في معركته من أجل حُلمه الوطني المشروع والبقاء والحياة الحرة الكريمة. كما أن مبادرته في الشارع تُمثّل الرد على المشاريع التي تَنتَقِصُ من سيادته على عاصمته المقدسة، وهي المدخل لتحصين الموقف الفلسطيني وصون ثوابته وإعادة النظر في التنازلات التي قُدمت على هذا الصعيد تحت الضغوط الأميركية والإقليمية، بما يعني تصحيح المعادلة المُجحفة التي ما زالت تَحكُمُ العملية التفاوضية (الغارقة في سباتها) ومنع انزلاقها نحو كارثة وطنية.
في هذا السياق، إن تدخل الهيئات الدولية، خاصة الأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان، لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة كما حدث في البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية، أمسى خطوة ضرورية من أجل كسر المعادلة القائمة، وعلى طريق توفير الغطاء الدولي لتطبيق قرارات الأمم المتحدة على الصراع في الشرق الأوسط أسوة بباقي القضايا الساخنة التي جرى حلها في مناطق التوتر في العالم خلال العقدين الأخيرين. لكن التدخل الدولي المنشود يَفتَرِضُ تماسك الموقف العربي على نسقٍ سياسي مُتناغم بالحد الأدنى بشأن دعم الشعب الفلسطيني، ووقف التفكك في الحالة العربية. فالتطور في الموقف الدولي إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال يستوجب موقفًا عربيًّا غير متراخيًا كي يصبح بالإمكان توفير مقومات الضغط الأممي على الاحتلال ودولته.