طبقا لنظرية المؤرخ اليوناني ثوسيدايدس أن صعود قوة فتية يهدد قوة مهيمنة ، أي أن الصين التي تنطلق سريعا في الساحة الدولية تشكل تهديدا للولايات المتحدة، القطب الوحيد في العالم، وربما سينتهيان بخوض حرب.
ـــــــــــ
صدر عن دار بوبليك افيرز في نيويورك كتاب (ماذا يحتاج العالم ليعرف عن القوة العظمى المرتقبة ?) الذي شارك في إعداده باحثون وخبراء من معهد الاقتصاد الدولي ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن حول الصين والعلاقات الأميركية الصينية. يتكون الكتاب من خمسة فصول وخاتمة تدور حول الاقتصاد الداخلي وطبيعة التحول الديمقراطي للصين وحجمها في الاقتصاد العالمي ثم السياسة الخارجية وقضايا الأمن. أما الخاتمة فقد جاءت تحت عنوان " نحو علاقات صينية أميركية جديدة.
يحاول الفصل الخامس من الكتاب الإجابة على سؤال : هل تشكل الصين تهديدا للولايات المتحدة. يستعرض الفصل السياسة الخارجية للصين وتحالفاتها الإقليمية وقدراتها العسكرية وتأثير كل ذلك على مصالح الولايات المتحدة. يقول مؤلف هذا الفصل إن هناك دلائل على أن الصين كانت حريصة منذ فترة على تنمية علاقتها الإقليمية والدولية وأن لديها خطة استراتيجية طويلة الأمد لتلعب دورا مركزيا في عالم العولمة. كان الدافع وراء تلك الخطة سعي بكين إلى ايجاد بيئة إقليمية ودولية تسهل لها تفعيل ونمو قدراتها الاقتصادية من جهة والحفاظ على سيادة واستقلال وضعها السياسي من جهة أخرى. كما كان حرص الصين على البحث عن الموارد الطبيعة خاصة مصادر الطاقة لتلبية احتياجات القطاع الصناعي دافعا مهما أيضا في تشكيل تحالفات الصين ورسم سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة وهذا ما يفسر من وجهة نظر الكاتب مواقف الصين من دول مثل السودان وإيران وبورما ودول أخرى لا ترضى قبولا في العالم الغربي. يفرد الكاتب جزءا كبيرا من هذا الفصل للحديث عن العلاقة بين الصين تايوان وسيناريوهات وقوع أي أزمة في المستقبل على العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. ويقول إنه على الرغم من أن الصين كانت المستفيد الأول من الاستقرار الذي وفرته القوة العسكرية الأمريكية في شرق ووسط آسيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى الآن، إلا أن توازن القوة في الإقليم سيظل قائما. وأن الصين لن تسعى إلى عداء الولايات المتحدة وتهديد مصالحها الاستراتيجية هناك.
تركز خاتمة الكتاب على مستقبل العلاقات الأميركية الصينية والبحث عن إطار جديد لهذه العلاقات، فالصين كما يرد في خاتمة الكتاب تزداد يوما بعد يوم تعقيدا وتناقضا، فالصورة التاريخية النمطية عن الأمة الصينية ذات الثقافة والتكوين السياسي الواحد باتت من الماضي. فاليوم هناك أكثر من صين: الريف والحضر، الثروة والفقر، التعليم والأمية، الدولية والانعزالية، وكل ذلك في سياق التنوع والتفاوت. وبناء على ذلك، فإن المواطنين والقيادة السياسية في الصين يواجهون الآن حراكا داخليا لم يسبق له مثيل. أما العلاقات بين الولايات المتحدة والصين فهي أيضا معقدة ومليئة بالتناقضات، فعلى الرغم من التنافس بين القوتين، فإنهما في حاجة إلى بعضهما البعض كما أن علاقات التبادل التجاري هامة جدا للطرفين، تعتبر الصين أكبر ثالث شريك تجاري وثاني أهم مصدر للواردات الأميركية. كما أن السلطات الصينية تعتبر ثاني أكبر دائن رسمي للولايات المتحدة ، حيث يوجد على الأراضي الصينية مئات المليارات من الأصول المالية الأميركية. وفي المقابل تعتبر الولايات المتحدة أهم شريك تجاري ثنائي للصين ومصدرا مهما للاستثمار وتصدير التكنولوجيا. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية فإن مصالح الولايات المتحدة والصين متشابكة بدرجة تجعل من العداء بينهما أمرا مستبعدا، وإن كان ذلك لا يعني وجود اختلافات حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
إلا أن مقالة جديدة في الاتلانتيك لجراهام آليسون (أحد أبرز علماء السياسة الدولية، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد الأميركية ) تحت عنوان فخ ثوسيدايدس : هل أن الصين والولايات المتحدة مقبلتان على الحرب ؟ أستنتجت ( استنادا الى تاريخ حرب بيلوبونيسيان الذي كتبه المؤرخ ثوسيدايدس في 431 قبل الميلاد عن حال العلاقة بين أثينا وأسبارطة والحرب الطويلة التي دارت بينهما في الفترة من عام 431 وحتى 404 قبل الميلاد. اليسون استخلص من كتابات ثوسيديدس أن تصاعد قوة أثينا في مختلف المجالات جعل أسبارطة القوى الأبرز عسكرياً في تلك الفترة تتخوف من ذلك الصعود وتقرر الدخول في حالة منافسة أدت إلى الوصول إلى العداوة بينهما ومن ثم الدخول الطبيعي إلى الحرب التي استمرت لنحو ثلاثين سنة، انتهت إلى ليس فقط القضاء على أثينا بل قضت على العصر الذهبي للحضارة اليونانية لصالح أسبارطة. هذه الحادثة أثبتت لجراهام اليسون بأن خوف قوة قائمة (أسبارطة) من صعود قوة منافسة (أثينا) وعدم الرغبة في التعاون بينهما سيؤدي إلى الوصول إلى فخ الحرب. ولعل اليسون استشهد بأن 12 حالة من 16 حالة منذ عام 1500 شهدت الدخول في حروب بين دول صاعدة تنافس دول ذات قوة قائمة في النظام الدولي. فالفرصة إلى أن الولايات المتحدة (القوة القائمة) تدخل في حرب مع الصين (القوة المنافسة) هي فرصة حاضرة، مما يدخل الطرفان في حالة ما أسماه اليسون بفخ ثوسيديدس.
في تغطيتها لزيارة الرئيس الصيني شي جين بينج للولايات المتحدة الاميركية ولقائه الرئيس الاميركي باراك أوباما اواخر الشهر الماضي التقت صحيفة الشعب الصينية دوجلاس بال نائب رئيس قسم الدراسات بمؤسسة كارنيغي إيدومنت للسلام الدولي الذي قال ان الزيارة حققت تلك التوقعات وربما فاقتها قليلا ". وأضاف أن "الهدف يرمى إلى تحقيق الاستقرار للعلاقات الأميركية - الصينية حيث تدخل الولايات المتحدة ما يوصف بأنه عامان أو يزيد على السياسات الداخلية المضطربة حقا ( إشارة الى الانتخابات الرئاسية في 2016 ) وانتقال إلى إدارة جديدة".وذكر بال "وفي تلك الأوقات، فإن العلاقات مع الصين ستواجه في دوائرنا السياسية هنا جميع أنواع الضغوط ، وستصدر تصريحات وحقائق وغير حقائق في الحملات السياسية". وأضاف "لذا، نحتاج من القادة أن يكون لديهم بعض الفهم المعقول لحدود ما سيفعلونه والأمور التي لن يفعلوها. ولكنني، أظن أن ذلك تحقق إلى حد كبير". ومستشرفا المستقبل، توقع بال مزيدا من التفاعلات بين الرئيسين "لمواصلة إدارة الأمور" بما فيها الاجتماع غير الرسمي لقادة منتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا- الباسيفيك الذي سيعقد في الفلبين الشهر المقبل، وقمة الأمن النووي التي ستعقد في واشنطن في مارس 2016، وقمة مجموعة العشرين التي ستستضيفها الصين في نوفمبر 2016. وحث الولايات المتحدة على اكتشاف سبيل لاستيعاب - وعدم مقاومة أو احتواء - نهوض الصين دون التخلي عن مصالحها وهياكلها القائمة الخاصة التي توفر السلام والأمن لغرب الباسيفيك، وعلى نطاق أوسع من ذلك، منذ الحرب العالمية الثانية. وذكر أن "ذلك يمثل تحديا صعبا"، مضيفا أن "الناس يتحدثون عن فخ ثوسيديدس واحتمالية دخول البلدين في صراع وعن دفع الصين للولايات المتحدة خارج الباسيفيك وعن مقاومة الولايات المتحدة لنهوض الصين في آسيا، ولكنها جميعا صيغ رديئة للتحدي الذي يواجهه الزعيمان الآن ". وأقر بال بأنه للحد من سوء الفهم والريبة بين الجانبين، "ربما لابد أن يكون شيئا لا يتم إلا بصورة تدريجية، خطوة خطوة ونحن نمضى قدما".
إن الشيء المؤكد هو أن الرئيسين الأميركي و الصيني لم يناقشا فخ ثوسيديدس واحتمالية دخول البلدين في حرب خلال العقد القادم ، كما أن الأوساط السياسية أعتبرت الحرب ضعيفة الاحتمال و خطوة "غير حكيمة". كان الرئيس الصيني شي جين بينج قد صرح إنه لا يوجد ما يسمى بنظرية "فخ ثوسيديدس" في الواقع المعاصر، داعيا إلى بناء نمط جديد للعلاقات بين الدول الكبرى يتسم بنبذ الخلافات والصراع والتأكيد على قيم الاحترام المتبادل والعمل لايجاد مزيد من التفاهم والثقة والتقارب وقراءة النوايا الاستراتيجية بصورة صحيحة وإدارة الخلافات بشكل ملائم وفعال وتعميق التفاهم المشترك حول التوجه الاستراتيجي وطريق التنمية.
ونحن نعيش ذكرى مرور قرن من الزمان على اندلاع الحرب العالمية الاولى، فإن تلك الحرب تقدم لنا دليلا واضحا على حماقة البشر واستعدادهم الدائم لارتكاب حماقات مشابهة . هل عندما نقول ان "لا يمكن تخيلها" نحن نعني ما هو ممكن وغير ممكن في العالم أو فقط ما يمكن لعقولنا " المحدودة " أن تستوعبه أو تتصوره؟ في عام 1914، لم يعتقد أحد او يتصور ذلك العدد الكبير من الضحايا و الذي تطلب البحث عن توصيف و تسمية جديدة لتلك الحرب لم يستخدم من قبل: الحرب العالمية. وعندما انتهت تلك الحرب بعد أربع سنوات، كانت اوروبا تعاني من دمار شامل : قيصر روسيا لم يعد موجودا بسبب الانقلاب البلشفي و كذلك الحال مع الامبراطور الالماني وعانت فرنسا ما عانت و خسرت بريطانيا الكثير من "شبابها و ثرواتها" و لم تعد أوروبا قلب العالم و قوته المسيطرة.
هل يمكن للولايات المتحدة والصين ان يتجنبا فخ ثوسيديدس. أن الإشارة الى ذلك الفخ دائما تذكرنا بالمخاطر المتوقعة عندما تنافس قوة صاعدة قوة أخرى مهيمنة كما حدث بين أثينا و أسبارطة في اليونان القديمة، أو كما فعلت ألمانيا بريطانيا قبل قرن من الزمان. يقول آليسون "خلص فريق من مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في جامعة هارفارد بعد تحليل لست عشرة حالة أن هذه ( المنافسات ) انتهت اثنتا عشرة حالة منها في الخمسمئة سنة الماضية الى حروب طاحنة ، أضرت غالبا بالطرفين . و تطلب الأمر في الحالات الأربع الباقية التي لم تنته بالحرب جهودا جبارة و تعديلات كبيرة في المواقف والأفعال من قبل الطرفين .
استنادا الى المسار الحالي، فإن الحرب بين الولايات المتحدة والصين في العقود المقبلة محتملة جدا على عكس ما يتداوله و يقوله الكثيرون. في الواقع، أن الست عشرة حالة التي أشرنا اليها تؤكد أن الحرب واقعة لا محالة .علاوة على ذلك، إن سوء تقدير المخاطر الكامنة في العلاقات الامريكية الصينية الحالية أو سوء فهمها تسهمان إلى حد كبير في تلك المخاطر، وهي مخاطر مرتبطة بفخ ثوسيدايدس عندما تهدد قوة صاعدة قوة مسيطرة ،فإن أزمة عادية يمكن في ظروف اعتيادية احتواؤها ، مثل اغتيال الأرشيدوق في عام 1914، قد تؤدي الى ردود أفعال تؤدي بدورها الى نتائج لا يمكن لأي من الطرفين التحكم بها .
مع ذلك فإن الحروب ليست حتمية. ففي أربع حالات ( من الست عشرة حالة التي أشرنا اليها ) لم تنته الى حروب . تلك النجاحات، و حالات الفشل أيضا، تقدم الدروس لزعماء العالم اليوم. إن الإفلات من الفخ يتطلب جهدا هائلا. كما أعلن ذلك شي جين بينج خلال زيارته لمدينة سياتل الأميركية " لا وجود لفخ ثوسيدايدس اليوم ." ولكن أذا أخطأت الدول الكبرى مرارا وتكرارا في حساباتها الاستراتيجية، فإنها ستوجد لنفسها مثل هذه الفخاخ . قبل أكثر من 2400 سنة، قال المؤرخ (الأثيني) اليوناني ثوسيديدس: " أن تنامي قوة أثينا، أثار مخاوف أسبارطة و أدى في النهاية الى اندلاع الحرب بينهما " . آخرون تحدثوا عن مجموعة أخرى من الأسباب التي أدت إلى الحرب البيلوبونيسية بين أثينا و أسبارطة . ولكن ثوسيدايدس ذهب إلى صلب الموضوع، مركزا على نتائج التحول السريع في ميزان القوى بين الخصمين. أشر ثيوسيديدس اثنان من الدوافع الرئيسية لهذه الديناميكية: تزايد استحقاق القوة الصاعدة، والشعور بأهميته، والمطالبة بالمزيد من الامتيازات، يقابله عند الطرف الآخر الخوف، وانعدام الأمن، وعزمه على الدفاع عن الوضع القائم.
في الحالة التي كتب عنها ثيوسيديدس في القرن الخامس قبل الميلاد، تحولت أثينا خلال نصف قرن إلى عاصمة للحضارة، التي تطورت فيها الديمقراطية والمسرح والعلوم من فلسفة، وتاريخ، وهندسة معمارية و بحرية. كل ذلك أصاب أسبارطة بالذهول، وهي التي كانت لقرن من الزمان القوة المهينة في شبه جزيرة بيلوبونيز( اليونان الحالية). يقول ثيوسيديدس كان موقف أثينا مفهوما. كلما نما نفوذها، زادت ثقتها بنفسها وادراكها بمظالم الماضي، وحساسيتها من حالات عدم الاحترام، وإصرارها على تعديل الترتيبات السابقة كي تعكس الواقع الجديد للقوة. يضيف ثوسيدايدس أن من الطبيعي أن تعتبر أسبارطة الموقف الأثيني غير معقول وناكر للجميل و مهدد للنظام الذي أقامته وازدهرت فيه أثينا.
ثيوسيديدس أرخ تغييرات موضوعية في القوة النسبية، لكنه ركز أيضا على تصورات التغيير بين قادة أثينا واسبارطة وكيف أدى ذلك بكل واحدة منهما الى تعزيز تحالفاتها مع الدول الأخرى على أمل ايجاد موازنة مع الجانب الآخر. إلا أن ذلك سلاح ذو حدين، ولهذا السبب حذر جورج واشنطن الولايات المتحدة من مثل هذه التحالفات . عندما نشب النزاع بين دولتي كورنيث و كورسيرا الصغيرتين ، شعرت أسبارطة بضرورة الدفاع عن كورنيت ، مما دفع الى نصرة حليفتها. بعدها نشبت الحرب البيلوبونيسية. عندما انتهت تلك الحرب بعد 30 عاما، وخرجت أسبارطة منتصرة الا أن كلتا الدولتين أصابهما الدمار مما أضعف اليونان أمام الفرس .

قبل ثماني سنوات من اندلاع الحرب العالمية في أوروبا، سأل ادوارد السابع ملك بريطانيا رئيس وزرائه لماذا أصبحت الحكومة البريطانية غير ودية في علاقتها مع ابن أخيه قيصر المانيا فيلهلم الثاني، بدلا من التركيز على الولايات الاميركية ، والتي اعتبرها الملك التحدي الأكبر . أوعز رئيس الوزراء الى واير كرو مسئول دائرة ألمانيا في الخارجية البريطانية بكتابة مذكرة يجيب فيها على سؤال الملك. سلم كرو مذكرته في يوم رأس السنة الجديدة، 1907. أعتبرت الوثيقة جوهرة في حوليات الدبلوماسية. المنطق الذي استخدمه كرو في تحليله يعكس الى حد بعيد فلسفة ثيوسيديدس. السؤال الذي طرحه ، كما لخصه هنري كيسنجر في كتابه " عن الصين " يقول : هل العداء المتزايد بين بريطانيا وألمانيا سببه القدرات الألمانية أو السلوك الألماني؟ صاغ كرو السؤال بشكل مختلف قليلا :هل سعي ألمانيا الى "الهيمنة السياسية والسطوة البحرية" تشكل تهديدا وجوديا لأستقلال استقلال جيرانها، بما في ذلك بريطانيا ؟ كانت إجابة كرو واضحة لا لبس فيها: بما أن الاقتصاد الألماني أقوى من نظيره البريطاني، فأن ألمانيا لن تكتفي ببناء أقوى جيش في القارة الأوربية وأنما ستبني أقوى اسطول. بعبارة أخرى كما يقول كيسنجر " ما أن تمتلك المانيا التفوق البحري، فإن ذلك بحد ذاته، بغض النظر عن نوايا المانيا، سيشكل تهديدا لبريطانيا، ويتعارض مع وجود الإمبراطورية البريطانية ".
بعد ثلاث سنوات من قراءة تلك المذكرة، توفي الملك إدوارد السابع. وكان من بين من حضروا جنازته، خليفته، جورج الخامس، والقيصر الالماني فيلهلم جنبا إلى جنب مع ثيودور روزفلت الذي يمثل الولايات المتحدة. يومها سأل روزفلت (و هو من دعاة بناء البحرية الأميركية ) ويلهلم ما إذا كان يفكر في وقف سباق التسلح البحري الألماني البريطاني. رد القيصر أن ألمانيا لا يمكن أن تعيش بدون قوة بحرية قوية. وأضاف أن الحرب بين ألمانيا وبريطانيا لا يمكن أن تحدث مطلقا " لأنني ترعرعت في إنجلترا، وإلى حد كبير جدا، أشعر في داخلي أنني نصف إنجليزي. و بعد ألمانيا فإن انجلترا تهمني أكثر وأكثر من أي بلد آخر " ثم قال مؤكدا :" أنا أعشق أنجلترا."
بغض النظر عن أن " الحرب لا يمكن أن تحدث" وكارثية نتائجها أن وقعت لجميع الأطراف ، وقوة الوشائج العائلية بين القادة ، وبغض النظر عن العلاقات الأقتصادية بين الدول ، الا أن جميع هذه الامور لا يمكن أن توقف الحروب، أمس، مثلا 1914 أو اليوم أوغدا .
في الواقع، في 12 من 16 حالة خلال السنوات الماضية 500 التي شهدت تحول سريع في القوة النسبية لبلد "صاعد" هدد وجود دولة مهيمنة، كانت النتيجة "اندلاع الحرب" . الأمثلة أدناه مقتبسة من دراسة لتلك الحالات أعده مركزبيلفر في جامعة هارفارد . المثال الأخير لم يؤد الى قيام حرب في حين ان بقية الامثلة التي انتقيت من القرون السادس عشر و السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر انتهت باندلاع حروب مدمرة.
أولا : العثمانيون والنمسا
مع انتصارها على فرنسا في الحرب الايطالية، حققت النمسا تحت ظل الامبراطور شارل الخامس السطوة في اوربا، والسيطرة على النمسا واسبانيا وجنوب إيطاليا، وهولندا. بعد هزيمته حاول فرانسيس الاول الاتصال بالعثمانيين الذين اعتبرهم "القوة الوحيدة القادرة على ضمان وجود الدويلات الأوروبية ضد شارل الخامس" . بعدما نجح العثمانيون في ضم الدولة المملوكية (التي حكمت مصر وسوريا والجزيرة العربية) في 1517، تضاعف حجم امبراطوريتهم وايراداتها. باستخدام هذه الموارد، عرضت القوات العثمانية قوتها في غرب اوروبا وصولا الى مضيق جبل طارق وشمالا إلى حدود حكم آل هابسبورج في أوروبا الشرقية. اتصل فرانسيس الأول بالسلطان العثماني سليمان القانوني، طالبا منه مهاجمة دولة هابسبورج من الشرق ، خوفا من سيطرة شارل الخامس على العالم.
نجح العثمانيون في هزيمة الجيش المجري بإمرة الملك لويس في معركة موهاج في 1526. أستولى العثمانيون على ثلث المجر و ضموها الى امبراطوريتهم الفتية و فتحوا بذلك امامهم ابواب اوروبا. خوفا من أن يستغل العثمانيون فراغ السلطة الناجم عن وفاة العاهل الهنجاري، اعلن فرديناند، دوق من النمسا، ملكا جديدا على المجر وبوهيميا، و بدأت بذلك مواجهة عسكرية طويلة بين الامبراطورية النمساوية والعثمانيين. في النهاية اضطر النمساويون بقيادة تشارلز الخامس لإبرام معاهدة مذلة في 1547 مع سليمان تخلى بموجبها عن المجر ، باستثناء منطقة صغيرة، مقابل ضريبة سنوية تدفع للقسطنطينية. بموجب المعاهدة اصبح سليمان القانوي و العثمانيون قياصرة اوروبا الجدد في حين انزوى شارل الخامس في اسبانيا ملكا عليها . دخل الجانبان على مدى القرنين التاليين في صراع من أجل الهيمنة في أوروبا الشرقية والبلقان.
ثانيا : السويد والنمسا
نجح فرديناند الثاني في السيطرة على الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد انتخابه إمبراطورا في 1619، و اندفع شمالا و سيطر على المانيا . تزامن هذا التوسع مع فترة من الانتعاش الذي شهدته السويد في عهد الملك جوستاف أدولفوس الذي نجح من خلال الجمع بين الابتكار الاقتصادي والعسكري والتوسع الإقليمي، في تحويل السويد الفقيرة و المتخلفة الى واحدة من اقوى الإمبراطوريات في أوروبا . نجحت السويد في هزيمة روسيا في 1617 واتحاد بولندا و ليتوانيا في 1625 و أحكمت السيطرة على منطقة بحر دول البلطيق. بعد أن استولت على جزء من بولندا في 1629، سيطرت على جميع الموانيء في جنوب بحر البلطيق."
اعتبر جستفوس الهابسبورجين تهديدا مباشرا لدولته الصاعدة , و سرعان ما تبنت السويد القضية البروتستانتية و شخصت بأبصارها صوب الشمال الالماني الذي دخلته الجيوش السويدية و تشتبك مع الهابسبورجين في حرب الثلاثين سنة لتهزمهم في سلسلة من المعارك أهمها معركة ويتستوك بالقرب من برلين في 1636، واحتلت نصف الاراضي الألمانية. هذه المعارك و الانتصارات جعلت السويد أقوى دولة في شمال أوروبا وثالث أكبر دولة في اوربا بعد روسيا وإسبانيا.
ثالثا : بريطانيا وفرنسا
مع اندلاع حروب الثورة الفرنسية، كانت بريطانيا القوة الاقتصادية والبحرية الابرز في أوروبا. بفضل اسطولها الضخم الذي كان يوفر الحماية لتجارتها مع مستعمراتها في انحاء مختلفة من العالم.
بعد أن سيطر نابليون على فرنسا في عام 1799، قاد حملة للسيطرة على القارة من خلال حروب له مع بريطانيا و النمسا و روسيا واسبانيا والبرتغال و السويد والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الرومانية المقدسة. ان محاولته لإعادة رسم خريطة أوروبا هددت القناعة البريطانية بأن أمنها يتطلب منع ظهور قوة مهيمنة وحيدة في القارة الأوروبية. كان رد الفعل البريطاني لحملة نابليون تتوخى هدفين الاول استعادة توازن القوى في أوروبا عن طريق إجبار فرنسا على الاستسلام و التخلي عن المناطق التي احتلتها خاصة هولندا و الثاني ان لندن تريد ميزان قوى يقر بسيادة البحرية البريطانية على بحار العالم و باحتكارها للتجارة العالمية ". من اجل تحقيق اهدافها ، دعمت بريطانيا أعداء فرنسا في أوروبا في حين لاحقت سفن البحرية البريطانية نظيراتها الفرنسية في جميع أنحاء العالم. ان دمرت الأسطول الفرنسي في معركة الطرف الأغر في عام 1805 بدد آمال نابليون في غزو بريطانيا . واصل نابليون شن حرب اقتصادية ضد بريطانيا و توسعه في اوربا ، في حين نجحت بريطانيا في تحقيق بعض النجاحات الاقتصادية والدبلوماسية مع الاوروبيين . في نهاية المطاف، نجحت بريطانيا في هزيمة نابليون في معركة واترلو عام 1815.
رابعا : فرنسا والمانيا
بعد ان هزم الدنمارك في عام 1864، والنمسا في عام 1866، وضعت بروسيا بقيادة بسمارك فرنسا "في موضع لا تحسد عليه و هي ترى نفسها تتراجع امام القوة الفتية الجديدة . رأى بسمارك الحرب مع فرنسا أداة فعالة لحشد الدعم الشعبي له لتوحيد المانيا.
حفز بسمارك المخاوف الفرنسية من التطويف بتهديدها بتنصيب امير الماني من عائلة هوهنتسولرن على العرش الإسباني. قال وزير الخارجية الفرنسي الجديد، دو جرامونت متحدثا مع مجلس النواب " أن ترشيح هوهنتسولرن للعرش الإسباني يشكل محاولة جادة لتغيير توازن القوة في اوربا على حساب الإمبراطورية الفرنسية . أن شرف ومصالح فرنسا تعرضت للخطر . والمح الى ان فرنسا سوف تعتبر الترشيح سببا للحرب ". في الواقع، أن ترشيح هوهنتسولرن واستفزاز بسمارك المتعمد للرأي العام الفرنسي باستخدام البرقية التي ارسلها ملك بروسيا وليلم الاولمن منتجع امس الى بسمارك بعد لقاء له مع سفير فرنسا في بروسيا . الاخير طلب من الملك الالماني تعهدا بعدم تنصيب امير من هوهنتسولرن للعرش الإسباني . الا ان الملك تملص بشكل دبلوماسي من اعطاء اي تعهد و ارسل برقية الى بسمارك يشرح فيها ما حدث و طلب اعلان الحدث للملاء فبدت للفرنسيين و كأن الملك يهين سفيرهم و بدت للبروسيين و كأن السفير يهين ملكهم . دفع ذلك الوضع نابليون الثالث لإعلان الحرب على بروسيا. لأن الولايات الجنوبية الألمانية اعتبرت فرنسا معتدية، انضمت لبسمارك ، تماما كما توقع الاخير . حقق بسمارك نصرين الاول بهزيمة الفرنسيين و الثاني بتوحيد المانيا و خرجت المانيا الجديدة الدولة الاقوى في اوروبا . هذه التطورات ستؤدي لاحقا الى الحرب العالمية الاولى في عام 1914.
خامسا :الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي
في نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت الولايات المتحدة كقوة أحادية القطب بعدما سيطرت على نصف الناتج الإجمالي العالمي. الا ان الاتحاد السوفييتي، حليف الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، حرر دول أوروبا الشرقية من الحكم النازي، وعسكرت الجيوش السوفييتية في تلك البلدان . بعد تسعة اشهر من اعلان النصر في الحرب العالمية الثانية ارسل جورج كينان القائم بالاعمال الاميركي في موسكو في فبراير 1946 رسالة طويلة عن النظام الشيوعي الجديد والتي اصبحت قاعدة لسياسة الاحتواء التي تبعتها الولايات المتحدة مع موسكو و بعد خطاب ونستون الشهير عن الستار الحديدي السوفييتي، تحول السوفييت وحلفائهم الى تهديد كبير للغرب اكثر شرا وخطرا من النازيين.
عندما كسر الاتحاد السوفييتي بنجاح الهيمنة الاميركية باختباره سلاح نووي خاص به في عام 1949 وبدأ اقتصاده بالنمو السريع خشى الأميركيون أن يتفوق الاتحاد السوفياتي عليهم . في عام 1945، كتب وزير البحرية جيمس فورستال بأن الشيوعية السوفيتية "هي عدو للديمقراطية كما كانت النازية أو الفاشية لأنها على استعداد لاستخدام القوة للوصول الى غاياتها . دفع نجاح إطلاق القمر الصناعي سبوتنيك عام 1957 الاميركيين للاعتقاد من أن التكنولوجيا السوفيتية قد تفوقت عليهم .في كتابه الشهير الاقتصاد: دراسة تحليلية ، توقع بول صامويلسون أن يتفوق الناتج القومي الإجمالي السوفيتي على الولايات المتحدة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي . بالرغم من ان توقعات الكاتب لم تصدق الا أن الاتحاد السوفياتي تفوق على الولايات المتحدة في مجالات عدة ، خاصة الجوانب العسكرية . ولمواجهة هذا التحدي، استخدمت الولايات المتحدة كل ما توفر عندها خطط و برامج و امكانيات ، عدا السلاح ، ليدخل البلدان في نفق الحرب الباردة الذي امتد لاربعة عقود من الزمان .
أكثر من أربعة عقود من الحرب الباردة، سعت الخصمين لتدمير بعضها البعض بكل الوسائل ما عدا الحرب الساخنة. بالرغم من المواجهات الخطيرة (على سبيل المثال، أزمة الصواريخ الكوبية) والعديد من الحروب بالوكالة (على سبيل المثال في كوريا وفيتنام وأفغانستان)، الا ان الدولتين نجحتا في تجنب الصراع المباشر بين جيشيهما .تحدث المؤرخون كثيرا في تفسيرهم لعدم تطور الحرب الباردة الى حرب "ساخنة" ، مثلا الخوف من الدمار الذي تسببه الاسلحة النووية او البعد الجغرافي .
كما رأينا عندما أرتفع سقف التحدي الفرنسي ( الدولة الصاعدة الفتية) للهيمنة البريطانية على المحيطات وميزان القوى في القارة الأوروبية، دمرت بريطانيا أسطول نابليون بونابرت في عام 1805 وبعد ذلك أرسلت قواتها البرية الى القارة لهزيمة جيوشه في اسبانيا وفي واترلو.و عندما سعى بسمارك في توحيد الدويلات الألمانية الرافضة للوحدة ، خاصة الدويلات الجنوبية ، كانت الحرب مع الخصم المشترك ، فرنسا، هي الأداة الناجعة لحشد الدعم الشعبي لمهمته.
أن كل حالة من الحالات أعلاه أو تلك التي تضمنتها دراسة مركز بيلفر في جامعة هارفارد هي فريدة من نوعها.أن الجدل الدائر حول أسباب الحرب العالمية الأولى تذكرنا بأن كل حالة تخضع لتفسيرات متنوعة . لكن علينا دائما أن نأخذ بنظر الأعتبار كما قال المؤرخ إرنست ماي، اوجه التشابة و الأختلاف .
ُنذر الحرب العالمية الثالثة :
مهما كانت الاختلافات فأن ثوسيدايدس يلفت انتباهنا الى القواسم المشتركة الواضحة. يرى جراهام آليسون أن التحدي الجغرافي الاستراتيجي البارز في هذا العصر ليست داعش و من على شاكلتها من المتطرفين او حتى عودة روسيا و دخولها حلبة الصراع في سوريا بقوة و بشكل غير متوقع . أنه صعود الصين وتأثيره على الهيمنة الأميركية، التي يدعي آليسون أنها مسئولة عن أستتاب السلام في العالم خلال السبعين عاما الماضية ( يبدو أن صديقنا نسي ما فعلته الولايات المتحدة من حروب في كوريا و فيتنام و أفغانستان والصومال والعراق وسوريا ونسي دهاليز الحرب الباردة والمؤامرات الأميركية التي ما زالت تقض مضاجع الكثير من أبرياء العالم ، خاصة الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني بسبب الدعم الأميركي الأعمى لأسرائيل ). يقول لي كوان يو رئيس وزراء سنغافوره الاسبق ان حجم الصعود الصيني يتطلب منا ان نعيد قراءة التوازن العالمي لان الصين ليس مجرد لاعب كبير يدخل الساحة الدولية، أنه اللاعب الأكبر ." يعلم الجميع أن الصين دولة فتية "صاعدة" وبشكل سريع أحيانا، ربما لم يشهد له التاريخ مثيلا، وكما وصفه الرئيس الرئيس التشيكي الأسبق فاتسلاف هافل، حدث بسرعة كبيرة بحيث لم يكن يتوفر لدينا من الوقت للاندهاش.
يقوم آليسون بعقد مقارنة بين الولايات المتحدة والصين في ثمانينيات القرن الماضي واليوم. في عام 1980، كان الناتج المحلي الإجمالي الصيني يعادل 10 في المئة من نظيره الاميركي ، 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بأسعار صرف الدولار الأميركي الحالية. و6 في المئة من صادراتها. العملة الأجنبية التي كانت لدى الصين في ذلك الوقت كانت سدس ما لدى الولايات المتحدة. بحلول عام 2014، أصبح الناتج المحلي الإجمالي الصيني يعادل 101 في المئة من نظيره الاميركي . 60 في المئة منه بأسعار صرف الدولار الامريكية؛ و 106 في المئة من الصادرات. و لدى الصين احتياطيات بالعملة الصعبة اليوم 28 مرة أكبر ممما لدى الولايات المتحدة.
خلال حوالي ثلاثين سنة قفزت الصين التي لم تكن ظاهرة في أي من مقايس القوة ( السياسة والعسكرية والاقتصادية وغيرها) الى مصاف الدول الكبرى في العالم. في عام 1980، كان الاقتصاد الصيني أصغر من الأقتصاد الهولندي . في العام الماضي، كانت الزيادة وحدها في نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين مساوية تقريبا للاقتصاد الهولندي بأكمله.
السؤال المهم الان هل يمكن أن تصبح الصين الدولة الاولى في العالم ؟ في أي عام يمكن أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة لتصبح، مثلا، أكبر اقتصاد في العالم، أو المحرك الأساسي للنمو العالمي، أو أكبر سوق للسلع الفاخرة؟ المدهش في الامر ان الصين تتفوق على الولايات المتحدة في العديد من المجالات . هل ستكون الصين قادرة على الحفاظ على تقدم معدلات النمو الاقتصادي لديها بعدة أضعاف مقابل الولايات المتحدة لعقد آخر او اكثر ؟ إذا الامر كذلك و هو حاصل فعلا هل ان قادة الصين الحاليين جادين بشأن الحلول محل الولايات المتحجة باعتبارها القوة المهيمنة في آسيا؟ هل ان الصين تنتهج مسار كل من اليابان وألمانيا، وتصبح طرفا فاعلا في النظام الدولي الذي أسسته ، كما يقول آليسون ، خلال العقود السبعة الماضية؟ من الصعب الأجابة ، أو حتى التخمين ، على هذه الأسئلة .
ربما علينا الالتفات مجددا الى لي كوان يو ملهم العديد من القادة الصينين منذ دنغ شياو بينغ. قبل وفاته في شهر مارس، قال مؤسس سنغافورة أن أحتمالية تفوق معدلات النمو الاقتصادي الصيني ستون 4 من 5 ، و هي نسبة مرتفعة جدا و وافق القائد السنغافوري على ان الصين ستصبح يوما الدولة الأولى في أسيا في المستقبل القريب و قال أن الصين ترفض أن تصبح عضوا فخريا في نادي القوة الأميركي .
يبدو أن الأميركيين يبحثون عن عدو جديد، سيصنعونه ويكذبون بشأنه (كما كان يفعل جوبيلز وزير دعاية هتلر الذي كان يردد" أكذب الكذبة ورددها ستصدق بها ويصدق بها الآخرون ) مثلما فعلوا مع أسلحة الدمار الشامل العراقية ، كما أن لدى الأميركيين الميل لموعظة الآخرين و اجبارهم على أن يكونوا مثلهم.
برزت الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في نصف الكرة الغربي في تسعينيات القرن التاسع عشر. كيف كانت تتصرف يومها ؟ الرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت قال أن القرن القادم سيكون أميركيا. بدءا من العام 1895 و مع اعلان وزير الخارجية الأميركي يومها ريتشارد اونلي ان الولايات المتحدة "تتسيد القارة الأميركية، أحتلت الولايات المتحدة كوبا و هددت بريطانيا وألمانيا بشن الحرب ضدهما لإجبارهما على قبول المواقف الأميركية بشأن النزاعات في فنزويلا وكندا؛ ودعمت تمردا لتقسيم كولومبيا و ايجاد دولة في بنما (التي منحت على الفور تنازلات للولايات المتحدة لبناء قناة بنما)؛ وحاولت إسقاط حكومة المكسيك، المدعومة من بريطانيا. في نصف القرن الذي أعقب ذلك، تدخلت القوات العسكرية الأمريكية في النصف الغربي من العالم في أكثر من 30 مناسبة مختلفة لفرض شروطها في تسويات اقتصادية أو إقليمية، أو للاطاحة بزعماء لم يعجبوا الادارة في واشنطن. على سبيل المثال، في عام 1902، عندما حاولت السفن البريطانية والألمانية فرض حصار بحري لاجبار فنزويلا على سداد ديونها لهم، روزفلت قال ان الولايات المتحدة ستكون مضطرة إلى التدخل بالقوة إذا لزم الأمر" إذا لم تسحب الدولتان سفنهما . وقد اقتنع البريطانيون والألمان على التراجع واضطروا الى الخضوع لشروط واشنطن . في العام التالي، عندما رفضت كولومبيا تأجير منطقة قناة بنما إلى الولايات المتحدة، دعمت الأخيرة الانفصاليين البنميين ،واعترفت بالحكومة البنمية الجديدة في غضون ساعات من إعلانها الاستقلال، وأرسلت قوات المارينز للدفاع عن البلاد الجديد. روزفلت دافع عن تدخل الولايات المتحدة على أساس أنه "مبرر أخلاقي ، وبالتالي له ما يبرره في القانون". بعد ذلك بوقت قصير، منحت بنما حقوق القناة الى الولايات المتحدة "إلى الأبد".
عندما وصل دنغ شياو بينج الى سدة الحكم في بكين في 1978 ، بدأ معه دخول الصين و بسرعة إلى السوق العالمية . يومها أعلن بينج عن حاجة الصين الى الاستقرار والوصول إلى الأسواق، لذلك حاولوا أتباع سياسة "واكب العصر و أخف ما لديك من قوة ".
مع وصول الزعيم الجديد في الصين، شي جين بينج، أنتهت سياسة مواكبة العصر و أخفاء القدرات. خلال ثلاثة سنوات من تسلمه الحكم، شي جين بينغ فاجأ العالم بسرعة تنفيذ خططه وجرأة طموحاته. وعلى الصعيد المحلي، ركز السلطة بيده متجاوزا لجنة الحكماء السبعة ، و أنهى فترة الغزل مع " سياسة الديمقرطة" و اعاد نفوذ الحزب الشيوعي الصيني وحاول تحويل الاقتصاد الصيني من اقتصاد يقوم على التصدير إلى واحد يقوم على الاستهلاك المحلي. و ركز في سياسته الخارجية على رعاية مصالح الصين .
بينما يركز الإعلام الغربي على بطء نمو الاقتصاد الصيني إلا أنهم يتناسون ان معدلات النمو الصينية ما زالت ثلاثة أضعاف مثيلاتها الأميركية . و غاب عن انتباه العديد من المراقبين خارج الصين الاختلاف الكبير بين الأداء الاقتصادي للصين ومنافسيها على مدى سبع سنوات منذ الأزمة المالية عام 2008. تسببت تلك الأزمة في تعثر معظم الاقتصادات الرئيسية الكبرى في العالم ، الا أن الأقتصاد الصيني مع ذلك واصل نموه سنة أثر سنة دون توقف ، مع المحافظة على معدل نمو متوسط يتجاوز 8 في المئة. في الواقع، منذ بداية الأزمة المالية، 40 في المئة من إجمالي النمو في الاقتصاد العالمي حدث في الصين.
اليوم تعتبر الصين أكبر اقتصاد في العالم من حيث كمية السلع والخدمات التي يستطيع المواطن شراءه في بلده ( اي القوة الشرائية). ان ما اسماه شي جين بينغ بالحلم الصيني يعبر عن تطلعات مئات الملايين من الصينيين، الذين يرغبون في أن تكون بلدهم غنية وقوية في الوقت نفسه. في جوهر العقيدة الحضارية الصينية الاعتقاد بأن الصين هي مركز الكون. و يتردد على ألسنة الصينيين ان قرن من ضعف الصين عرضها الى الاستغلال و المهانة على يد الغرب و اليابان . تعتقد بكين ان الصين تسترد عافيتها و مكانتها التي تستحقها ، حيث ان قوة الصين تفرض على الأخرين الاعتراف واحترام المصالح الجوهرية للصين.
في نوفمبر الماضي، قدم شي جين بينغ ، في الاجتماع السنوي للقيادة الصينية ، لمحة شاملة عن رؤيته لدور الصين في العالم. بدأ شي جين بينج برسم صورة هيجلية للتطور التاريخي للتعددية القطبية وتحول النظام الدولي . ( بالمناسبة فإن آليسون يرى العرض موجها الى الولايات المتحدة ( القطب الواحد ضد التعددية القطبية و النظام الدولي ضد النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ) .قال شي جين بينج أن الأمة الصينية المتجددة قادرة على بناء "نوع جديد من العلاقات الدولية" من خلال " نضال طويل حول طبيعة النظام الدولي. و قال إن "الاتجاه المتزايد نحو عالم متعدد الأقطاب لن يتغير".
يقول فريق مركز بيفلر في جامعة هارفاد " في أربع من الحالات 16 ، و فيها تنافس يشابه التنافس الصيني الأميركي ، لم تنته الى حرب. وعلى زعماء الولايات المتحدة والصين و هم يتحدثون عن ضعف احتمالية نشوب الحرب بينهما أن لا يفلتوا العنان و يتركوه بيد بعض العوامل البنيوية كما حدث في الكثير من الحروب .أولئك الذين لا يتعلمون من النجاحات والإخفاقات الماضية لإيجاد طريقة أفضل للعيش فإنهم يومها لن يلوموا الا أنفسهم.
ان الوضع الحالي يتطلب البحث عن وقفة متأنية و طويلة للبحث عن استراتيجية جديدة و بعض الأفعال الملزمة لتأمين السلام و ديمومته ، بدلا من أن يبدأ الأميركيون قرع طبول الحرب سواء مع روسيا أو الصين. إذا كان التحول الناجم عن صعود الصين يشكل تحديا للولايات المتحدة و يثير لديها الخوف بسبب أمثلة أستقاها البعض من التاريخ أرضاء لنظرية جالت في خواطرهم، فهنالك أمثلة أكثر عن قوى صعدت و هبطت دون حروب لأنها سنة الحياة الحتمية. أن من حق الصين ذات التاريخ الذي يمتد لأكثر من 5000 سنة و فيها يعيش أكثر من 1.3 مليار ، ان تتقدم و ليس من حق الأخرين الأفتراض أو التوهم ان مثل هذا التقدم مصوب نحوهم في محاولة ، كما يفعل الأميركيون ، لأعداد المسرح العالمي لصراع جديد ( بارد أو ساخن ) سيكلف العالم الكثير ، ربما أكثر من جميع المرات السابقة ، خاصة وقد أتخمت تلك الدول ترساناتها بجميع الأسلحة الفتاكة .

محمد نجيب السعد