‏[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني [/author]
مع تصاعد أشكال المواجهة المصيرية المحتدمة الآن بين الشعب الفلسطيني الأعزل والاحتلال الصهيوني الباطش، واتساعها لتشمل الخريطة العربية الفلسطينية من رفح إلى الناقورة ومن النهر إلى البحر، مصحوبةً بارتفاع منسوب عمليات الطعن الفدائية البطولية الفردية الطابع، كمستجد اتسمت به أشكال المواجهة ضد المحتلين واتساع مواقعها، يتصاعد بالتوالي مؤشر بورصة التسميات الإعلامية لهذه المحطة النضالية الفلسطينية، ليرسو في أغلبه على توصيفها بهبَّة شعبية في سبيلها إلى انتفاضة ثالثة منتظرة، وانهالت التنظيرات حسنة النية وخبيثها من حولها، فطلع علينا من يرسم لها أهدافها، إما مقزِّمًا لها أو مبالغًا فيها، بيد أن أخطرها كان التحذير من مآلها إلى الفوضى بسبب من عفويتها، وبالتالي انعدام وجود القيادة المجرِّبة التي تخطط لها وتديرها، والتباكي على ما يعدونه الاستشهاد المجاني لشبانها المترتب على انعدامه.
لسنا هنا بصدد الرد، لأنه سوف يأتي من ميادينها في مقبل الأيام وهي وحدها من سوف يتكفل به... فقط نذكِّر بما كنا قلناه في مقالنا السابق من أنها حالها حال سابقاتها من المحطات النضالية المتتالية على مدار الصراع لم تأخذ إذنًا من أحد ولم تنتظر نصيحةً ناصح ولا تلتفت لتحذير محاذر... وللباحثين عما ينعتونها به قلنا لهم، سمُّوها ما شئتم فهذا لن يغيِّر أو... أو يبدِّل من كون أنها ما هي إلا واحدة من مستجد إبداعات شعبها الكفاحية التي تجود بها عبقريته النضالية المبتكرة دائما للمفاجئ والمختلف من أشكال المواجهة المتناسبة مع ما تسمح به المراحل التي يمر بها نضاله ذاتيًّا وموضوعيًّا، لكن لا تحمِّلوها ما هو فوق طاقة شعبها، الذي قام ويقوم وسيظل بما عليه من مهمة هي إدامة الاشتباك مع عدو الأمة كلها، أي لا تطلبوا منه أن ينوب عنها فيما هو مهمتها هي والتي وحدها القادرة والمسؤولة عن القيام بها، أي حسم الصراع، والذي لا يكون إلا بتحرير كامل فلسطين.
وإذ ذكَّرنا بما كنا قلناه فقد بات لزامًا أن نزيد الآن عليه، بأننا لا نريدها حتى انتفاضة ثالثة، بمعنى نسخة من سابقاتيها، ولا أن تنتهي إلى ما انتهتا إليه، وإنما محطة نضالية لها ما بعدها، بمعنى تنطلق مما راكمته سابقاتها، اللواتي لم ينقطعن منذ أن كانت أولاهن المعروفة بهبَّة البراق، لتؤسس للاحقاتها في صراع وجود تناحري قاسٍ ومديد، يذكِّرنا نتنياهو يوميًّا، ومنه تصريحاته المذعورة الأخيرة، بأنه لن يحسم إلا بانتصار أحد طرفيه كليًّا في نهاية المطاف، بمعنى إما نحن أو هم... ويقول لنا التاريخ ما تؤكده الجغرافيا ويؤشر عليه رعبهم الجنوني المستفحل الآن من مجرَّد ما يصفونه بـ"انتفاضة السكاكين"، بأننا المنتصرون وهم المندحرون.
...نريدها دائمة، هدفها التحرير ووسيلتها كافة أشكال المقاومة، التي يوفرها شعب لم ولن يبخل بتقديم ما تتطلبه من تضحيات... شعب كل خطايا وكوارث وعار الراهنين العربي والفلسطيني وفوقهما الدولي، ومعهما العربدة الصهيونية المنفلتة لم تقعده عن استعداده الدائم لتوفيرها، بل لعل في هاته الخطايا والكوارث وهذا العار، أو ما تستند إليه العربدة المستفردة، على فداحته ومعوقاته، المحفِّز لانثيال المزيد والجديد والمبتكر من عطاءات هذا الشعب المناضل وأسطورية صموده المذهلة.
وحيث إن من شأن أهوال المعاناة والعذابات الفلسطينية المديدة والمستمرة إنتاج أجيال المبهر فيها أن لاحقها أشد صلابة من سابقه، فالمشهد الراهن يشي بأن جيل ما بعد المصيبة الأوسلوية قد التقط الراية ليتجاوز بها الفصائل وتنزوي السلطة في المقاطعة لائذةً بتنسيقها الأمني مع المحتل، وتؤشر فدائية عمليات الطعن الاستشهادية وفردانيتها وتصاعدها أن الشعب، الذي وحدته المواجهات وأعاد شلال دمه رسم خريطة كامل فلسطينه التاريخية ماحيًا خطوط الاحتلالات خضرها وحمرها، قد أخذ على عاتقه إعادة الاعتبار لمفهوم حرب الشعب ولو بما ملكت أيمانكم. كما علينا أن لا ننسى أن جل الهبات والانتفاضات والثورات التي عرفها التاريخ تبدأ عفوية ووحده الميدان ينتج قياداتها ويدشِّن برامجه. لكن، علينا ألا نُغفل أيضًا أنها إنما محصَّلة ثقافة وموروث نضالي يتوارثهما الصغير عن الكبير وتشحذها عذابات يومية واستحقاقات نكون أو لا نكون، إذ لا من ظاهرة منفصلة هنا. ولا بد من التنويه أيضًا بأن كل الفلسطينيين مسيسون وليسوا في حاجة لوعاظ السياسة الذين يتكاثرون الآن عبر الشاشات. والمهم الأهم الآن هو إن ملتقطي الراية في هذه اللحظة الفلسطينية الفارقة، والذين لا تتجاوز أعمارهم العقدين، يعيدون من جديد نسج الهوية الوطنية المقاومة والجامعة لشعبهم وطنًا وشتاتًا، والتوكيد على مسلَّمة ما دام هناك احتلال تكون المقاومة.
إنه أما وإن الأمن يشكل بعدًا من ثلاث قام عليها الكيان الصهيوني في فلسطين، والأخريان هما الدور الوظيفي في سياق المشروع الغربي المعادي في دنيا العرب وأساطيرهم وخرافاتهم الملفقة، بحيث إن أي اهتزاز لأحدها يطرح تماسكه ومسألة بقائه برمته قيد التساؤل، لذاهم الآن يرون في الحالة النضالية الفلسطينية الراهنة "حربًا وجودية" عليهم، ويرون في كل عربي في فلسطين سكينًا سيطعنهم وكل سيارة يقودها ستدهسهم، والثكنة الصهيونية الآن بكاملها ممتشقة لسلاحها وصهاينتها ما بين المتمترس خلف الحواجز وقلاع الخرسانة أو المختبئ في بيته ويخشى الخروج منه. أسقط في يدهم، وما المغالاة في البطش والدعوة لمزيده إلا انعكاس لذعر يتملَّكهم جعل نتنياهو يستنجد بكيري القادم للمنطقة في مقبل الأيام "لمنع الانفجار"، يضاف إليه انبعاث الحياة المفاجئ في رميم "الرباعية الدولية"... الغضب الفلسطيني الآن بات خارج القمقم، وعلى الفصائل الوطنية اغتنام اللحظة والارتقاء إلى مستوى الحالة الشعبية.