(3) مبدأ حرية الإثبات في المعاملات التجارية

نواصل قراءتنا في أحكام القانون التجاري العماني، ونخصص هذه المقالة للحديث في مبدأ حرية الإثبات في المعاملات التجارية مع الإشارة- متى لزم الأمر- مدى توافر هذه الحرية في إثبات المعاملات المدنية... نظرا لما تمتاز به الحياة المدنية من الثبات والاستقرار، وما تستغرقه التصرفات التي يبرمها غير التجار من وقت طويل في معظم الأحوال... لذلك فإن المشرع المدني وضع قواعد خاصة لإثبات هذه التصرفات حماية للمتعاقدين من جهة، وتبصيرا لهم بخطورة ما يقدمون عليه من تصرفات من جهة أخرى. وقد تجسد ذلك في القاعدة العامة التي أوردتها المادة (41) من قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية العماني والتي يجرى نصها بالآتي: "في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على ألف ريال أو كان غير محدد القيمة، فلا تجوز شهادة في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك.".
إضافة إلى هذا القيد العام على حرية الإثبات في المسائل المدنية، فهناك العديد من القيود الأخرى التي تحد من حرية الإثبات، خذ على سبيل المثال ما صرحت به المادة (42) من قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية "لا يجوز الإثبات بشهادة الشهود ولو لم تزد القيمة على ألف ريال (أ) فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي...". كما أنه لا يجوز في المسائل المدنية أن يصطنع الشخص دليلا لنفسه، ولا يجوز له أيضا تقديم دليل ضد نفسه... أما في المعاملات التجارية فالأمر مختلف تماما عما حاصل في المسائل المدنية... نظرا لما تطلبه الحياة التجارية من السرعة والثقة. وعلى هذا اعتنق المشرع التجاري العماني مبدأ حرية الإثبات في المواد التجارية، فنصت المادة (3) من القانون التجاري على أنه "الأصل في العقود التجارية جوز إثباتها بكافة طرق الإثبات مهما كانت قيمتها ما لم تنص مواد هذا القانون على خلاف ذلك."
وعلى هذا فالأصل وفقا لحكم هذه المادة يجوز للأشخاص في المسائل التجارية إثبات حقوقهم عند نشوء نزاع بينهم بكافة طرق الإثبات ودون النظر لمقدار قيمة الإلتزام وهذا يعني أنه يمكن لأطراف الدعوى إثبات إلتزاماتهم بالشهود مهما كانت قيمة الإلتزام، وكذلك يجوز لهم الإثبات بالقرائن والمراسلات... وللتدليل على ذلك خذ على ذلك مثالا آخر يجسد حرية الإثبات في المواد التجارية.
فالأصل في المسائل المدنية أنه لا يجوز للشخص أن يصطنع دليلا لنفسه، كما أنه لا يجوز إجباره على تقديم دليل يدينه... أما في المواد التجارية فهي تخرج عن هذه القاعدة بما تقرره في المواد (27، 28، 29، 30،...) من القانون التجاري والتي تنظم حجية الدفاتر التجارية في الإثبات. فالمادة (36) منه تنص على أنه "الدفاتر التجارية الإلزامية حجة لصاحبها التاجر ضد خصمه غير التاجر بصدد الديون الناشئة عما ورده التاجر لعميله. وتسقط هذه بالدليل العكسي.".
وأخيرا ما يجب ملاحظته في هذه الجزئية أن مبدأ حرية الإثبات في المسائل التجارية لا يتعلق بالنظام العام، وعليه يجوز الإتفاق على ما يخالفه... إلا أن مبدأ حرية الإثبات في المواد التجارية يرد عليه استثناءات. فقد رأى المشرع التجاري أن هناك من التصرفات التجارية التي قد يستغرق إبرامها أو تنفيذها وقتا طويلا، بحيث يكون للمتعاقدين متسع من الوقت يمكنهم من تحرير دليل كتابي... وقد يكون في أحوال أخرى لخطورة التصرف القانوني أن يشترط المشرع الرسمية حتى ولو كان التصرف القانوني تصرفا تجاريا حماية للمتعاقدين.
خذ مثالا على ذلك "عقد الشركة" فقد تطلبت المادة (6) من قانون الشركات التجارية كتابة عقد الشركة. وإن لم يصرح المشرع بذلك إلا انه يستفاد ضمنا وجوب كتابة عقد الشركة، منه ما صرحت به المادة (6) من قانون الشركات التجارية والتي جرى نصها بالآتي "إن العقود التأسيسية وأنظمة الشركات التجارية ما عدا العائد منها إلى شركات المحاصة هي مستندات معدة لإطلاع الجمهور ويجب تسجيلها ونشرها...".
وبالتالي فإن عقود الشركات إذا لم تكن مكتوبة فلا يتسنى للجمهور الإطلاع عليها كما لا يمكن تسجيلها ونشرها... مما يعني يضحى الحال وجوب تسجيل عقود الشركات كاستثناء من مبدأ حرية الإثبات في المواد التجارية... وذات الأمر فيما يتعلق بالعقود التي ترد على السفينة من بيع وشراء وإيجار وجميع التصرفات القانونية التي ترد عليها يتوجب كتابتها... هذه قراءة سريعة في مبدأ حرية الإثبات في المسائل التجارية...
قراءتنا القادمة - إن شاء الله - مع موضوع آخر ضمن أحكام القانون التجاري،،،

الدكتور سالم الفليتي
أستاذ القانون التجاري والبحري المساعد - كلية الزهراء للبنات ـ
محام ومستشار قانوني
كاتب وباحث في الحوكمة والقوانين التجارية والبحرية والإتفاقيات الدولية
[email protected]