بينما يستعر جهد الولايات المتحدة قائدة معسكر العدوان على سوريا بحثًا عن مخارج جديدة تعيد مراجعة اصطفاف الدول الوظيفية، وأدواتها في المنطقة التي تبعثرت على وقع العمليات العسكرية الروسية وتضارب المصالح الآنية، والفشل في تحقيق مرتكزات مشروع تدمير الدولة السورية، تظل أزمة اللاجئين حالة فارقة ودالة في الوقت ذاته على كارثية السياسات التي انتهجها ذلك المعسكر ويصر عليها تجاه سوريا وشعبها، في دلالة واضحة ولا تخطئها العين على عملية الاستهداف المقصودة والمعدة ضد الشعب السوري، بهدف إفراغ سوريا من ثقلها السكاني بما يعطي القوى المتآمرة هوامش مناورة وبناء على ما يتمخض عن عملية الإفراغ عبر التهجير القسري الذي باشرته تلك القوى، من حيث استغلال الأزمة في تمرير مشاريع تخريبية استهدافية غايتها تفتيت الدولة السورية، من قبيل إقامة ما يسمى مناطق "عازلة وآمنة"، وإبقاء الأرض السورية خواء إلا من القوى المتواجهة وهي الجيش العربي السوري والعصابات الإرهابية، وحرمان سوريا من طاقات شبابها وخبراتها العلمية والمهنية المعروفة بحرفيتها وعلو كعبها في ما تمتهنه، بالإضافة إلى قطع الطريق على الشباب السوري وانضمامهم إلى صفوف الجيش العربي السوري للذود عن حياض وطنهم، وهذا من شأنه ـ حسب الفكر التآمري الإجرامي الإرهابي ـ أن يسرع من عمليات الاستنزاف الجارية للجيش السوري وللدولة السورية.
وفي الجانب الآخر، رغبة الدول الأوروبية المستقبلة للمهجَّرين قسرًا في الاستفادة من هذه الطاقات السورية الشابة والكفؤة والرخيصة مثلما هو حال ألمانيا على سبيل المثال.
لكن يبدو أن سحر الإقدام على هذه الجريمة البشعة في التاريخ الإنساني الحديث بدأ ينقلب على السحرة أنفسهم، فمنهم أخذ يصرخ، ومنهم من يعض أصابعه ندمًا، ومنهم من يرمي باللوم على الآخر. فإعلان القارة العجوز أمس عن أن عملية توزيع اللاجئين في الاتحاد الأوروبي التي بدأت قبل عشرة أيام انطلاقًا من إيطاليا واليونان مهددة بالتوقف بسبب نقص قدرات الاستقبال في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ونفاد عمليًّا الأماكن التي تعهدت الدول الأعضاء بتقديمها. فهذا الإعلان لا يعبر فحسب عن فداحة السياسات الأوروبية التابعة للسياسة الأميركية وقبولها أن تكون على الدوام مطية لنزوات الصهيو ـ أميركي، وإنما تؤشر إلى بدايات الشعور بالوجع الكبير وحصاد ارتدادات خطأ الخنوع والانبطاح أمام نزوات الصهيو ـ أميركي، تحت طائلة الحصول على فتات مائدتهما.
وما من شك أن هذه الأزمة بأبعادها الإنسانية لا تمثل فقط انتهاكًا سافرًا للمعاهدات ذات العلاقة وترتب مسؤوليات أخلاقية، وتلحق العار بالأوروبيين الذين يعتبرون أنفسهم أنهم أوصياء على حقوق الإنسان، بل إنها ستترتب عليها تداعيات وتحديات خطيرة خاصة في ظل ما يعانيه العالم من تراجع في أسعار النفط وتباطؤ في النمو الاقتصادي، واحتمالات الدخول في مرحلتي الانكماش والكساد، ما يعني ارتفاع نسبة الباحثين عن العمل، وهذا له ضريبته الباهظة على المستوى الاجتماعي والأمني من حيث الجرائم والعنف، وغيرها.
ولذلك، ليس أمام هذه القوى التي تآمرت على الشعب السوري وعمدت إلى تهجيره قسرًا سوى أن تراجع سياساتها الكارثية، وتتخلى عن دعم الإرهاب وتتوقف عن تمرير الإرهابيين، وتسند الجهود لدى الجانب الآخر الساعي إلى الحل السياسي في سوريا. وعلى أوروبا ـ إن أرادت التخلص من تبعات أزمة اللاجئين وتداركها ـ أن تبني سياسات مستقلة وتتخلى عن تبعيتها الدائمة للسياسة الصهيو ـ أميركية التي لا يحمل كوارثها ونتائجها المأساوية دومًا غير أوروبا ومن يتبع النهج ذاته.
إن الشعب السوري كان قبل تفجير المؤامرة ضد بلاده يعيش معززًا مكرمًا، يأكل من عرق جبينه ومن خيرات أرضه، ويكفيه فخرًا أنه يطعم أشقاءه العرب بفائض إنتاجه، ويكفيه فخرًا أن بلاده لم تكن يومًا مديونة ولو بدولار واحد؛ ولهذا اللاجئون السوريون والعراقيون والليبيون هم ضحايا السياسة الصهيو ـ غربية وتابعاتها، وتصحيح هذا الخطأ الكارثي وأوضاعهم لا يتم إلا بالعمل على توفير المناخات التي تساعد هؤلاء المهاجرين على العودة إلى بلدانهم ورفع اليد عنها وعدم التدخل في شؤونها.