” .. في ظل هذه الاعتداءات والتجاهل والتخلي عنهم من قبل القريب والبعيد، لم يكن أمام الشباب والشابات الفلسطينيين بدا من أن يقاوم آلة الاحتلال بكل السبل المتاحة أمامه، بل والتفكير في ابتكار طرق جديدة للمقاومة. كان في مقدمة ذلك تلك الشجاعة الفائقة التي تحلى بها هؤلاء الشبان في الذود عن المسجد الأقصى والمرابطة فيه بأجسادهم العارية في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة.”

بات المشهد الفلسطيني على شفا الانفجار الشامل، ويتصدر المشهد الشباب والفتيان الفلسطينيين من الجنسين الذين هبوا في وجه ممارسات الاحتلال الاستفزازية. فقد مارس الاحتلال كل الجرائم بحق أهالي فلسطين، سواء في القدس المحتلة أو في الضفة الغربية أو في الحزام الأخضر داخل أراضي 48، بمعنى أنه لم يسلم من تعنت الاحتلال أي مكان أو بشر فلسطيني. وتتمثل بعض من تلك الجرائم في عمليات الاعتقال العشوائية التي تقوم بها سلطات الاحتلال لشباب فلسطيني. وتجريف الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون. ومنع الفلسطينيين من البناء على أراضيهم، بل وهدم كثير من منازلهم بزعم عدم حصولهم على رخص بناء تتعنت سلطات الاحتلال في منحها. وتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية بإقامة الحواجز التي تعيق الحركة والتنقل بين المناطق الفلسطينية. وحصار شامل للفلسطينيين والعمل على خنقهم اقتصاديا. وتقييد نمو وتمدد الحيز العمراني للبلدات والمدن والقرى الفلسطينية فيما جاورها من أراضٍ بالضفة. وإقامة جدار الفصل العنصري الذي يقطع أوصال الضفة الغربية بشكل يجعل الفلسطينيين يعيشون في معازل يعانون فيها من تدهور الخدمات والأوضاع الصحية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والأمنية. واستنزاف سلطات الاحتلال لمخزون المياه الجوفية في الضفة الغربية وحرمان الفلسطينيين أصحابه منه. فضلا عن التوسع الاستيطاني غير المسبوق في السنوات الأخيرة على حساب الأراضي والمنازل الفلسطينية. بالإضافة إلى وحشية واستفزاز المستوطنين واعتداءاتهم المتكررة على الفلسطينيين تحت حماية قوات أمن الاحتلال. وبلغ السيل الزبى بالانتهاكات الإجرامية المتكررة بحق البقاع المقدسة في باحة المسجد الأقصى مسرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وثالث المساجد المقدسة التي يشد لها الرحال، وما تتميز به من قيمة كبيرة لدى المسلمين عامة وأبناء الشعب الفلسطيني المرابط خاصة، وذلك من خلال عمليات الاقتحام المتكررة للمسجد من قبل المستوطنين بحماية قوات الاحتلال، فضلا عن أعمال الحفر والاعتداءات المتكررة على الحرم.
كل ذلك مع تقديم الفلسطينيين كثيرا من التنازلات منذ اتفاقات أوسلو في 1993 حتى الآن، دون أن يحصلوا على أي مقابل يتمثل في العيش الآمن في وطن كريم يتسع لهم ويمارسون فيه حياتهم بشكل طبيعي. ودون أي تحرك عربي أو إقليمي أو دولي يحاول تخفيف وطأة المعاناة عنهم. أو حتى وجود أي بارقة أمل في عملية سلام تحقق لهم الحد الأدنى من حقوقهم ومطالبهم. بل إن سلطات الاحتلال تتعنت حتى في طلب فرنسا إرسال مراقبين دوليين للمواقع المقدسة في القدس المحتلة وذلك خشية افتضاح أكبر لجرائمها وانتهاكاتها للمقدسات.
وفي ظل هذه الاعتداءات والتجاهل والتخلي عنهم من قبل القريب والبعيد، لم يكن أمام الشباب والشابات الفلسطينيين بد من أن يقاوم آلة الاحتلال بكل السبل المتاحة أمامه، بل والتفكير في ابتكار طرق جديدة للمقاومة. كان في مقدمة ذلك تلك الشجاعة الفائقة التي تحلى بها هؤلاء الشبان في الذود عن المسجد الأقصى والمرابطة فيه بأجسادهم العارية في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة. ولم يجد هؤلاء الشباب أمامهم من سلاح، فاستخدموا سلاح الحجارة التي استفزت قوات الاحتلال بشكل دفع سلطاته إلى استصدار قوانين تقضي بسجن ملقي الحجارة على قواته أربع سنوات. فلم يأبه هؤلاء الشبان بتلك التهديدات. بل زادوا بأن استخدموا السكين في مواجهة عناصر قوات الاحتلال المدججين بأعتى الأسلحة، فكانت الغلبة للسكين في مواجهة البنادق الآلية. ثم كانت شجاعة الشباب الفلسطيني بالوقوف في وجه دبابات ومجنزرات قوات الاحتلال بصدور عارية وإعادة عبوات الغاز المسيل للدموع التي تلقيها قوات الاحتلال عليهم بشكل متحدٍّ، نرى فيه بعض الشباب يتراقص ويدخل على قوات الاحتلال وفي يده عبوة الغاز المسيل التي تم إطلاقه عليه وعلى رفقائه. ثم اللجوء إلى حرق الإطارات لاعتراض حركة المجنزرات الإسرائيلية في تلك المشاهد البطولية، بدون ظهير حامٍ من قبل السلطة الحاكمة في الضفة الغربية وبدون ظهير عربي وإسلامي. وذلك لأن الكل مشغول بمشاكله الداخلية أو الخارجية.
ولقد رأينا ذلك الانشغال واضحا حتى على المستوى الشعبي إذ لم نرَ مظاهرات شعبية حاشدة في العواصم العربية والإسلامية تنديدا بما ترتكبه سلطات الاحتلال بحق أبناء الشعب الفلسطيني العزل وبحق المقدسات. ومن ثم لم يعول الفلسطينيون على المواقف العربية والإسلامية، فلم نسمع منهم في التقارير الأخبارية عبارة" وينكم يا عرب".
لكن غضبة الشباب الفلسطيني هذا ومقاومته وصموده بالقليل مما يتيسر بين بيديه في وجه أقوى وأشرس احتلال في العالم والمدعوم من القوى الكبرى سيكون له مردوده، ليس فقط على الداخل من خلال دفع القيادة الفلسطينية إلى إعادة النظر لنفسها وتقييم أمورها ودراسة سياساتها ومواقفها، بل أيضا سيكون له مردوده بشكل أو آخر على كثير من الشباب الذي يعاني من الظلم والقمع والتهميش في عدد من البدان العربية الأخرى. الأمر الذي يمكن أن يمثل عنصر إلهام ونموذجا وقدوة لهم، كما كان حال الهبات التي انطلقت في عدد من البلدان العربية قبل سنوات. وهو ما يستوجب على الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان أن تأخذه بعين الاعتبار وتعمل على التعاطي الإيجابي معه، قبل أن تفاجأ بانفجار موجات من الغضب في وجهها بأشكال مختلفة، في وقت تعاني فيه أغلب البلدان العربية من تردي الاوضاع الاقتصادية نتيجة تراجع أسعار النفط لدى عدد من البلدان وتراجع عائدات السياحة والصادرات وغيرها من الموارد في عدد من البلدان العربية التي تعاني من صراعات داخلية، وتلك التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي والمهمة في نفس الوقت بالنسبة لمحيطها العربي والاسلامي. فالأيام القادمة حبلى بالتطورات على صعيد المشهد الفلسطيني والتي سيكون لها تداعياتها على الداخل الفلسطيني وعلى المنطقة.

السيد عبدالعليم
[email protected]