لم يعرف عن الشعوب العربية والإسلامية في تاريخها أنها شعوب كارهة لمفاهيم الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والعدالة الاجتماعية والمساواة وغيرها من المفاهيم ذات العلاقة، كما أنها لم يعرف عنها أنها شعوب مقادة وخانعة وتقبل بالظلم ومظاهر الفساد، بل إنها حرصت على أن تكون تلك المفاهيم هي الناظم لحياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والأمنية، وبالتالي عملت الأقطار العربية والإسلامية على إقامة أنظمة وبنى دستورية وقانونية تسمح فيما بعد بقياس مستويات الحريات الممنوحة وتطبيقاتها الديمقراطية، ومن هنا فإن كل قطر عربي وإسلامي أصبح محتكمًا إلى ما يعتمده من دساتير وأنظمة وتشريعات تنظم علاقات الناس بعضهم بعضًا، وعلاقاتهم مع الأنظمة الحاكمة.
وما من شك أن الكثير من الدول العربية والإسلامية عملت على إقامة دولة المؤسسات وتعميق هذا المفهوم في أذهان شعوبها وأفكارهم انطلاقًا من فهمها العميق لمعنى الدولة المؤسساتية وأهمية غرس مفهوم المواطنة الحقة والانتماء للأوطان والتضحية من أجلها، وأنه كلما تعمقت بنية الدولة المؤسساتية تتعمق بالقدر ذاته الحرية باعتبارها حقًّا ثابتًا يجب أن يتمتع به الفرد وبكامل حقوقه المدنية، وأنه تحت مظلتها الدستورية والقانونية يجب أن تتحقق تجليات الديمقراطية في ممارسة حق المشاركة في الحياة السياسية عبر حرية الانتماء الفكري، واحترام رأيه في اختيار من يرغب في تمثيله في قمة هرم السلطة، مع أهمية تكريس مفاهيم احترام حقوق المواطنة وسيادة القانون والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
غير أن هذا الحراك الدستوري والقانوني الذي اعتمدته بعض الدول العربية والإسلامية تجاه تحقيق الاستقرار والتنمية ورخاء شعوبها ورفاههم ونشر مظلة الأمن، والمساواة والعدالة بين أفراد المجتمع الواحد، وبعث طاقاتهم نحو الإنتاج والتنمية ومن ثم بلوغ أعلى مراتب الاستقرار الاجتماعي والمعيشي، وتطوير المجتمع والرقي به، كل ذلك لم يعجب القوى الامبريالية الاستعمارية الغربية؛ لأنه بكل بساطة يتناقض مع مشاريعها الاستعمارية وأهدافها للهيمنة على الدول العربية والإسلامية والسيطرة على مقدرات شعوبها وثرواتها، فكان لا مجال أمامها سوى التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول وبعثرة مجتمعاتها وإعادة فكها وتركيبها، تارة باسم الحرية والديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان، وتارة بسلاح القوة والإرهاب، وتارة ثالثة ببث سموم الطائفية والتعصب المذهبي والعرقي.
وللأسف الشديد، فإن القوى الاستعمارية الامبريالية الغربية نجحت في ضرب قواعد التعايش والسلم الأهلي في الدول التي استهدفتها، في حين أن المداخل التي دلفت منها إلى المجتمعات العربية والإسلامية وهي "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية المدنيين" هي مداخل في جوهرها تصطدم مع أطماع القوى الاستعمارية ومشاريعها.
وفي لجة المشهد الدموي الناشئ عن الإرهاب اليوم والمركب في جسم ما يسمى كذبًا "الربيع العربي" عملت على توظيف تلك المداخل الآنفة توظيفًا آيديولوجيًّا، لدرجة أنه وصل إلى مستوى ابتذال فكري وسياسي يسوغ الإرهاب والقتل والتدمير، وتتصدر العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ومصر هذا المشهد الدموي اليوم الذي ينزع إلى اللا استقرار والفوضى والغوص في أعماق أفران الإرهاب، وفي الوقت الذي تبحث فيه شعوب تلك الدول عن نعمة الاستقرار والأمن وبساطة العيش تواصل القوى الامبريالية الاستعمارية تدخلها في شؤون تلك الدول، وتستمر في تأجيج الأزمات وتوتير الأجواء الطائفية ودعم الإرهاب، وتجنيد المزيد من الإرهابيين والتكفيريين والمرتزقة وضخ الأموال والسلاح بشتى أنواعه لإبادة شعوب تلك الدول.
للأسف، هذه الحقيقة لا يزال كثير من الموهومين ومغيبي الوعي لا يريد إدراكها، ولا يزالون أسرى الكلمات المدسوس السم في عسلها.