[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
في لحظة معينة اكتشف ملوك أوروبا وقادتها سرًّا عسكريًّا مكنهم من تحييد بسالة وفروسية المقاتلين العرب والمسلمين، ثم مكنهم حتى من تحقيق النصر التام على دولة العرب والمسلمين هناك. وقد تلخص هذا السر في تقنية تحييد فروسية وعزم المقاتل العربي عن طريق المحافظة على مسافة طولية تفصل بينه وبين المقاتل الأوروبي، فلا يتمكن المقاتل العربي من مبارزة المقاتل الأوروبي والظفر به لدحره على نحو مباشر.

عندما عرضت الفضائيات الأميركية قبل بضعة أيام صورًا فيلمية لغرفة عمليات العراق العسكرية، خطرت ببالي بضعة ملاحظات، ومنها أن هذه الغرفة (أي القاعة العملاقة التي كلف بناؤها ستة ملايين دولار) المجهزة بالشاشات الإلكترونية الكبيرة وبجميع أنواع الاتصال الأثيري والفضائي لإدارة الأعمال العسكرية للقوات المسلحة في العراق، ليس من بغداد ولا من الموصل، ولكن من قطر، الدولة التي تقع على بعد آلاف الأميال من مواقع القتال، علمًا أن فريق الضباط والقادة الذين يديرون العمليات العسكرية الجوية والأرضية من هناك لا تخذلهم وسائل الاتصال الفيلمية والصوتية قط، درجة أنهم يشعرون بأنهم في وسط العمليات العسكرية بكل دقة، فيصدرون الأوامر ويقدمون التعليمات لضباطهم العاملين في العراق، بلا صعوبات.
هذا بالضبط ما حدا بي لتأمل الفوارق بين "العسكريتارية" الأميركية، من ناحية، والعسكريتارية العربية الإسلامية، من الناحية الثانية. وإن شئنا المقارنة، يمكن أن نرتجع إلى فصل مأساوي، دموي من تاريخنا في بلاد الأندلس. عندما كان العرب هناك، ارتكن سر تفوقهم العسكري على الممالك الإسبانية إلى فنون الفروسية والقتال الفردية، سوية مع مايرافقها من صفات شخصية مثل البسالة ورباطة الجأش، إذ كانت هذه جميعًا تكمن وراء انتصارات العرب المسلمين في شبه جزيرة إيبريا، من طارق بن زياد، حتى عبدالرحمن الغافقي. المقاتلون العرب أشداء، لايستطيع المقاتلون الأوروبيون مجاراتهم في المبارزات المباشرة قط، لا بالشجاعة ولا بقوة العزيمة وصلابة الموقف. لذا بقي العرب هم المنتصرين طوال تاريخ بقائهم في الأندلس، أي حوالي ثمانية قرون. ولكن في لحظة معينة اكتشف ملوك أوروبا وقادتها سرًّا عسكريًّا مكنهم من تحييد بسالة وفروسية المقاتلين العرب والمسلمين، ثم مكنهم حتى من تحقيق النصر التام على دولة العرب والمسلمين هناك. وقد تلخص هذا السر في تقنية تحييد فروسية وعزم المقاتل العربي عن طريق المحافظة على مسافة طولية تفصل بينه وبين المقاتل الأوروبي، فلا يتمكن المقاتل العربي من مبارزة المقاتل الأوروبي والظفر به لدحره على نحو مباشر. وهكذا ضمن الأوروبيون انتصارهم على البسالة العربية الإسلامية من خلال تحاشي الارتطام أو الالتحام العسكري وجهًا لوجه مع العرب والمسلمين. وكان السر الذي ضمن تمديد المسافة بين الحشدين يكمن في استعمال كرات النار الحارقة والقادرة على بث الاشتعال السريع بعد إطلاقها بالمنجنيق. لذا فقد ضمن المنجنيق مسافة طولية لا تسمح بالالتحام العسكري المباشر، فتساعد على ضرب المسلمين من على مبعدة مسافات طويلة. وإذا كانت هذه هي التقنية التي حيدت شجاعة وفروسية المقاتلين المسلمين والعرب حقبة ذاك، فإنها تذكرنا بنماذج عدة من تفوق الفروسية الفردية العربية على سواها في حالات تاريخية كثيرة، ناهيك عن توكيد كلياتنا العسكرية والاحتياط على فنون الفروسية في برامجها الدراسية.
هذا بالضبط هو ما يحدث الآن في المواجهات العسكرية التي تجري من آن لآخر بين المسلمين والغربيين. في الحالة الأولى، تعتمد الروح العسكرية على المهارة والفروسية الفردية والشجاعة ورباطة الجأش، أما في الحالة الثانية، فتعتمد الروح العسكرية على تجنب المواجهة المباشرة وتحييد المقابل العربي أو المسلم الشجاع بواسطة الحفاظ على المسافات الطويلة التي تضمن للقوات الغربية تجنب الارتطام المباشر مع المقاتل العربي أو المسلم، وذلك عبر تحقيق النصر عليه بضربه عن بعد.
أما بعد أن باشرنا اليوم "عصر الدرونات"، فإن بسالة وصلابة ومطاولة المقاتل العربي أو المسلم لن تكون عوامل حاسمة قط في أية مواجهة عسكرية بين المقاتلين، فلا تبقى للفروسيات ولعنتريات "وقفت وما للموت شك لواقف/ كأنك في جفن الردى وهو نائم"، أية قيمة حاسمة.