واجه العرب بعد خروجهم من الجزيرة العربية علوم اليونان ومعارف الفرس وتراث الهند، دون أن يكون لهم سابق تجربة في التعامل مع هذه العلـوم والمعارف، ودون أن يكون في لغتـهم رصيـد للتعبير عن المسميـات الجديدة.لكنهم استوعبوا علوم هذه الأمم بوساطة الترجمة والتعريب، فوضعوا المصطلحات العلمية، وأسّسوا لغة علمية عربية وراحوا يبدعون بوساطتها ويؤسّسون حضارتهم العربية الإسلامية. واللافت للنظر أن العرب طوال القرن العشرين أكثروا من مديح هذه التجربة التاريخية، وعدُّوها دليلاً على قدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم. وما كان هؤلاء العرب مخطئين في مديحهم؛ لأن عدداً وافراً من المصطلحات العلمية التي وضعها أجدادنا ما زال صالحاً شائعاً بيننا. بيد أن الإفادة من هذه التجربة التاريخية في الوقت الراهن يحتاج إلى إنعام نظر في نقاط الاشتراك والاختلاف بين التجربتين، وإلا فإن الاطمئنان إلى إمكانية تكرار التجربة التاريخية سيقودنا إلى مزالق نحن في غنى عنها.
ذلك أن نقطة الاشتراك الرئيسة بين التجربتين هي مواجهة أمم متقدّمة علمياً على العرب، والحاجة إلى استيعاب علوم هذه الأمم بوساطة وضْع المصطلحات العلمية وتأسيس اللغة العلمية العربية. وقد توقّف الباحثون العرب عند هذا الاشتراك بين التجربتين ولم يجاوزوه إلى نقاط الاختلاف، ومن ثَمَّ عجز هؤلاء الباحثون عن تعليل إخفاقنا بعد أن وضعنا آلاف المصطلحات العلمية، ودرّسنا العلوم بالعربية، وألّفنا الكتب العلمية بها، دون أن نصل إلى النجاح الذي بلغه أجدادنا على الرغم من أنهم ساروا على النهج نفسه.
من المفيد القول إن أجدادنا واجهوا أمماً توقّفت عن العطاء العلمي وبدأ الوهن السياسي يدبّ في أوصالها. وكانوا يثقون بأنفسهم وبقدرة لغتهم العربية وبموقفهم الحضاري وقوة عقيدتهم واستماتة جنودهم. ولهذا السبب نجحوا في تحقيق أهدافهم، فترجموا ما لدى الأمم الأخرى، وشجّعوا العلم والعلماء، وأشاعوا المناخ الملائم للبحث العلمي، وتمكّنوا من الانتقال من استيعاب العلوم وتمثُّلها إلى تأصيلها والإبداع فيها، وقدَّموا للأمم الأخرى حضارة أفادت من سابقاتها وشرعت تخدم الحضارات التي واكبتها وتلك التي جاءت بعدها. أما التجربة الحديثة فقد واجه العرب فيها أمماً غربيّة في أوج ازدهارها وعطائها العلمي وقوّتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. واجهوا أمماً جعلت العصر الحديث عصر التفجُّر المعرفي وراحت تُغذّيه كلَّ يوم بالجديد في حقل الكشوف والاختراعات العلمية. وفي المقابل اتسم العرب اليوم بالتردّي السياسي، وبشيء من ضعف الثقة بالنفس، وبقدر من التهاون باللغة العربية، فضلاً عن أنهم متفرقون تأكلهم التجزئة وتُباعد بينهم الحواجز. وهذا ما جعل كلَّ دولة عربية تواجه السيل المعرفي منفردةً، على عكس ما فعله أجدادنا حين واجهوا تراث الأمم الأخرى موحَّدين.
هذا الذي قلتُه عن الاختلاف بين التجربتين القديمة والحديثة يحتاج إلى إنعام نظر، فهو عبرة لنا إذا كنا نعتبر؛ عبرة تنصّ على أن التجزئة دمار للعرب جميعاً في عصر القوة والقدرة على توظيف العلم للسيطرة على الأمم الضعيفة. والأمر، في الحالات كلها، سياسي لا علاقة له بقدرة اللغة العربية على استيعاب العلم الحديث. وقد آن الأوان للتعامل معه على هذا الأساس؛ لأن هذا التعامل يزيد من ثقتنا بلغتنا، ويجعلنا نواصل السير في طريق وضع المصطلحات العلمية وتوحيدها، ونسعى في الوقت نفسه إلى تحريض ذوي القرار السياسي على العمل الهادف إلى إذاعتها واستعمالها في الدول العربية كافة.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
كلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]