تتلاحق المناسبات والفعاليات الوطنية والعربية والإسلامية المتعددة العناوين التي تجعل من بلادنا قبلة ومركز إشعاع تنويري ومركز جذب جماهيري، انطلاقًا من الخصوصية التي يتميز بها المجتمع العماني، ومن الدور التاريخي والحضاري والإنساني الذي لعبته عُمان ماضيًا وتلعبه حاضرًا وعلى مر التاريخ، حيث تنهض ثقافتنا كجزء من العالمين العربي والإسلامي على أساس من التسامح والتراحم والتواصل مع الآخر وتبادل المصالح معه ومعاضدته في أعمال تعود بالخير للبشرية كلها، وإيمانًا بأن الأمم والأوطان تتقدم بقدر إعلائها لقيمة بناء الإنسان المعاصر وتعميق وعيه واستنهاض طاقات التنوير في نفسه، وربطه بتاريخه وتراثه وعاداته وتقاليده، ويتبلور هذا الوعي وينمو ويصبح واقعًا ونتيجة حتمية للجهود المبذولة في تقديم الغذاء المعرفي والروحي اللازم للعقل والفكر، حينما تولي اهتمامًا بخلق بيئة ثقافية مواتية لحركة التحديث والتقدم والعصرنة، وإقامة جسور ممتدة من التواصل الحضاري والثقافي مع الآخر والحرص على الاستفادة منه مثلما هو يحرص على الاستفادة من غيره في حركة متواصلة ومتبادلة.
وما من شك في أن الخطوة الأولى على هذا الدرب لا تقتصر فحسب على الاهتمام بتشييد بيوت العلم والمعرفة وصروح التنوير الثقافي والحضاري، بحيث تحتضن ألوان المعرفة والفكر الإنساني وتصبح قبلة للدارسين والباحثين، وتتحول مع مرور الزمان وحركة عجلة التاريخ إلى وقود في قاطرة البحث العلمي والإبداع الثقافي، لتضع أوطاننا على الطريق الصحيح، وإنما أيضًا العمل على إثراء هذا المناخ بتنظيم الفعاليات الثقافية واستضافة ذوي الباع الطويل في العلم والمعرفة والأدب والثقافة، ولإطلاعهم على المخزون الثقافي والرصيد التراثي والمعرفي على أرض الواقع.
وفي إطار هذا المناخ المليء بالزخم الثقافي والعلوم والآداب ودروس الماضي العابق بمآثر الأجداد والآباء العلمية والعملية والأدبية والفقهية، تزهو مدينة العلم والتراث مدينة نزوى بفعاليات احتفالها عاصمة للثقافة الإسلامية، حيث كانت أمس الأول وأمس على موعد آخر مع التاريخ، لتضع موطئ قدم أخرى في البناء الحضاري الإنساني يجدد الدور المحوري البارز عبر مراحل التاريخ كركن من أركان تلك الحضارات، وذلك من خلال احتفالها بافتتاح مركز نزوى الثقافي الذي يأتي افتتاحه أيضًا متزامنًا مع احتفال البلاد بالعيد الوطني المجيد، ما يؤكد الحرص السامي لجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ على نشر بساط المعرفة ومد جسور الثقافة للباحثين والدارسين على أرض السلطنة، ويعد إحدى الترجمات الحقيقية العملية المباشرة لمدى التقدير الكبير لقيمة الإنسان وفكره وفاعليته ـ إذا ما لقي العناية والاهتمام الكافيين ـ في إقامة أركان حياة آمنة ومستقرة، ورفدها بمختلف الوسائل والفنون والأدوات التي تُعين البشر على تحقيق حكمة خلقهم.
والحق، إن اهتمام السلطنة بإنشاء هذا الصرح الثقافي في مدينة نزوى لهو تكريم وتقدير جم لتلك العقول التي حفرت عميقًا في التاريخ العلمي والأدبي والثقافي، ووضعت اسم عُمان في مراتب المجد وسلم الحضارة الإنسانية، وهو صرح سيكون معينًا علميًّا ومعرفيًّا وثقافيًّا يضاف إلى مصادر التنوير التي تزخر بها بلادنا كمنجزات ومكتسبات النهضة المباركة، ليس من باب الوجاهة والاستعراض بل تتويج رائع للمشهد الثقافي الحافل بالمنجزات والذي تشهده السلطنة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه. كما تواصلت احتفالات نزوى عاصمة للثقافة الإسلامية عبر ندوة "نزوى تاريخ وحضارة" التي تعد بدورها تواصلًا حيويًّا للرسالة الثقافية والحضارية للسلطنة من خلال السرد التاريخي للدور الذي لعبته مدينة نزوى، ودورها في انبلاج نور العلم لتكون قبلة للعلماء والمثقفين والشعراء، ومحطة انطلاق إلى الأمصار، حيث أعادت الندوة عبر ذلك اللفيف من الباحثين والدارسين والمهتمين بالتاريخ وذوي العلاقة نفض التبر عن صفحات التاريخ العامرة بدور نزوى وعلمائها وتراثها.