كثر الحديث خصوصاً في السنوات الأخيرة عن حوار الحضارات وأعدت هناك الكثير من الدراسات والأطروحات وعقدت الكثير من المؤتمرات .. وهو موضوع يمكن بحثه من جوانب مختلفة قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، ونحن في هذا اللقاء ننظر إلى حوار الحضارات من خلال رؤية شرعية مستمدة من هذه الشريعة الغراء، وباعتبار أننا أمة تستمد تصوراتها وأفكارها وتهتدي في سلوكياتها وتصرفاتها بهدي الكتاب العزيز، فهل هناك من نصوص أو إشارات في كتاب الله أو في سنة الرسول (صلى الله عليه وسلّم) يمكن أن نستلهم منها مشروعية الدخول في حوار الحضارات؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى بعث عبده ورسوله محمداً (صلى الله عليه وسلّم) كما بعث إخوانه من الرسل من قبل برسالة الحق، رسالة الهدى، رسالة الإنقاذ لهذه الإنسانية، رسالة وصل الدنيا بالآخرة ووصل المخلوق بخالقه تبارك وتعالى أولاً، رسالة وصل هذا الإنسان المستخلف في هذه الأرض ببني جنسه، ووصله بهذا الكون بأسره، لأن الإنسان مستخلف في جزء منه وهو الأرض، وممكن في الانتفاع بجميع أجزاء هذا الكون.
فلذلك كانت هذه الرسالة رسالة عقل. والله سبحانه وتعالى شرف الإنسان بالعقل، وميزه به على غيره، وجعله مناط تكليفه وسبب هدايته. ونجد في كتاب الله سبحانه وتعالى ما يدل على تكريم العقل ورفع قدره فالله تعالى يقول:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، ويقول:(لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ)، و)لقوم يذكرون)، و(لقوم يتفكرون)، و(لقوم يعلمون)، مما يدل على أن العقل عندما يستخدم استخداماً سوياً سليماً يؤدي بهذا الإنسان إلى أن يهتدي بفضل الله تبارك وتعالى وتوفيقه، ولما كان العقل هو مناط تكريم الإنسان والإسلام جاء بهذه الرسالة مبنية على أسس من العقل السليم والشرع الصحيح فإن خطابه للعقلاء من الأمم مبني على هذا الأساس، ولذلك نحن نجد في كتاب الله تعالى حواراً لجميع الفئات من البشر، للضالين من مختلف الفئات.
الله تبارك وتعالى يأمر نبيه (صلى الله عليه وسلّم) بمحاورة المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى ، ويبين له من خلال النظرة العقلية الفاحصة لهذا الكون وسننه ونواميسه التي طبعه الله تبارك وتعالى عليها ما يدل على وحدانية الله سبحانه، فالله تعالى يقول:(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد ـ 16).
ويقول سبحانه وتعالى أيضاً موجهاً لعبده ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلّم) إلى محاورة أولئك الذين ضلت عقولهم، وانحرفوا عن سواء الصراط ، واتخذوا مع الله آلهة أخرى، وعوّلوا على مخلوقات لا تنفع ولا تضر في طلب قضاء الحاجات وفي التوصل إلى الرغائب، وفي الوصول إلى المقاصد، فالله تبارك وتعالى يقول:(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل 59 ـ 64.(
فهذا كله حوار مع الإنسان على أسس العقل . فإن القرآن الكريم يفتح مدارك هذا العقل ، ويبين لهذا الإنسان أن حقائق الوجود كلها تنبئ بلسان حالها أنها مفتقرة إلى واجب الوجود لذاته ، وأنها لا يمكن أن تقوم بنفسها . ولذلك يقول أحد علمائنا (إن كل ذرة من ذرات الكون هي كلمة من كلمات الله ناطقة بوجوده سبحانه وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة).
فالقرآن الكريم جاء بخطاب العقل، جاء بتوجيه الإنسان إلى الخير ، جاء بمحاورة هذا الإنسان الذي آتاه الله تبارك وتعالى ما آتاه من عقل ، ولكن طمس هذا العقل بضلاله وبانحرافه ، بمخلفات أسلافه التي جعلها مقدمة على العقل، ورأى أن سلامته في أن يغمض عينيه ويسد أذنيه ولا يعول إلا على ذلك الموروث الذي ورثه هدى كان أو ضلالاً، حقاً كان أو باطلاً.
وكما أنه يحاور المشركين من العرب هذا الحوار بحيث إنه يوقفهم على الحقيقة التي يجب أن يسلّموا لها إن كانوا عقلاء وهي وحدانية الله سبحانه وتعالى فإنه يحاور أيضاً أهل الكتاب ويبين لهم أن الحق يقتضي أن يفردوا الله تبارك وتعالى بالعبادة وأن لا يشركوا معه غيره ، فالله تبارك وتعالى يقول ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران ـ 64)، هذا هو منطق العقل . الله سبحانه وتعالى يدعوهم إلى أن يجتمعوا إلى كلمة سواء بين المؤمنين وبين أهل الكتاب ، وهذه الكلمة السواء أن لا يشركوا بالله ما لم يأذن به ، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أرباباً ، وأن لا يدعوا مع الله إله آخر . هذا كله هو حوار جاء به الإسلام دين الله تعالى الحق، فالإسلام يفتح مجالاً واسعاً للحوار مع أي أحد ، ولكن لا يعني ذلك أن هذا يعني التشكيك في أي قضية من قضايا الإسلام، الإسلام جاء من عند الله ، ليس لأحد فيه دخل ، فلا يعني هذا أن ينزل الإنسان عن شيء من قضايا الإسلام ، من عقيدة الإسلام ، من موروث الإسلام ، مما جاء في كتاب الله ، مما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، لا يمكن أن يكون لأي أحد في ذلك دخل ، ولا يملك أي أحد أن ينزل عن أي شيء من ذلك، وكل من رد شيئاً من ذلك فهو ناقض للإسلام من أساسه وإنما هذا الحوار من أجل أن هذه الرسالة رسالة الإسلام هي رسالة عالمية، هي رسالة لا تقف عند حدود الزمان والمكان، جاءت لتكون هدى للناس ، جاءت لتكون هدى للعالمين (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(الفرقان ـ1)، جاءت هذه الرسالة من أجل إخراج هذا العالم بأسره من فساده وانحرافه وباطله إلى الصلاح والحق والاستقامة على سواء الصراط.
الله تبارك وتعالى أخبر فيما أنزله في مكة المكرمة في الآيات المكية أن هذا الإسلام هو رحمة للعالمين، الله تعالى يقول:(إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)(يوسف ـ 104) (التكوير ـ27) (ص ـ 87)، ويقول:(وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (القلم ـ 52) ، جاء ذلك كما نرى في سورة يوسف وهي سورة مكية ، في سورة ص، في سورة القلم، في سورة التكوير، هذه كلها سور مكية.
وكثير من الناس حاولوا أن يكابروا أولئك الذين كبر عليهم أن تكون دعوة الإسلام دعوة عالمية حاولوا أن يكابروا ويزعموا بأن عالمية الإسلام ما كانت مذكورة في الدعوة المكية وإنما دعا إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) أو نادى بها بعدما انتقل إلى المدينة المنورة ولاحت له علائم النصر فرجا أن تكون دعوته دعوة عالمية . هذا من كذبهم وافترائهم والكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وسلّم)، وإلا فالآيات المكية تدل على هذا .. والدعوة الإسلامية قامت على أساس أن تكون دعوة عالمية من أول أمرها.

يجيب عن أسئلتكم
سماحة الشيخ العلامة : أحمد بن حمد الخليلي
المفتي العام للسلطنة