عمّان ـ العُمانية :
نحو سبعين عاما مرت على نكبة فلسطين، حيث أُجبرت جموع المهجّرين على مغادرة الوطن والتشتت في أصقاع الدنيا. وإزاء هذا المشهد، ولأن المبدع لسان حال شعبه وأمته، فقد أطلق التشكيليون الفلسطينيون صرختهم بالألوان، مؤمنين أن "الفن أداة من أدوات المقاومة"، فقدموا أعمالاً مبدعة ساهمت في حثّ أبناء شعبهم على مواصلة النضال والتشبث بحق العودة، ورفض جميع أشكال الاحتلال والقمع.
وفي سياق موسمها الثقافي الذي يحمل عنوان "طقوس الإشارات والتحولات"، استضافت دائرة الفنون – مؤسسة خالد شومان بعمّان، الفنانتين الفلسطينيتين الرائدتين سامية حلبي وفيرا تمار، والفنان الشاب خالد حوراني، في ندوة تحدثوا فيها عن تجاربهم وعن التحديات التي تواجه الفن الفلسطيني.
تقول حلبي المولودة في مدينة القدس عام 1936، إنها هُجّرت من فلسطين وهي طفلة، وعندما درست فن التصوير في أمريكا اختارت أن تتخصص في الجزء البحثي الذي رأت أنه الأقدر على التعبير عن هويتها، وقامت في هذا السياق بإجراء مقابلات مع رسامي الانتفاضة ورسامي المقاومة في بيروت كالفنان نبيل عناني، وقد أثّرت فيها هذه التجربة ودفعتها إلى التأمل في أصول الفن العربي الإسلامي الذي يعد من اللبنات الأساسية للتجريد.
وحول سرّ شغفها بالتجريد، قالت حلبي إنها كانت تراقب الحرفيين في الشام وهم يصنعون طاولة الزهر، حيث يبنون من قطع الخشب الصغيرة والملونة شكل الطاولة، معتمدين على الجزء في بناء الكل، وبهذا يحصلون على تشكيلات ذات حدود حرة، من هنا بدأت وبوحيٍ من ذلك اشتغالها على مجموعة تعبّر عن المرأة الفلسطينية، كما في لوحتها "بنت في جنينة أمها".
وفي مرحلة لاحقة، تأثرت حلبي بالتكعيبية، وبالتشكل المدينيّ، وبالتطريز الفلاحي الفلسطيني الذي يعبّر عن الهوية بوصفه أحد الفنون الراسخة منذ القدم في فلسطين، فكان أن أنجزت لوحات من بينها "تكحيل" التي استمدت اسمها مما يسمى "تكحيل" في التطريز؛ حيث يختلط اللون الأحمر وتدرجاته بالسواد.
وحول سؤال: أين فلسطين في أعمال سامية حلبي؟ أكدت الفنانة أنها أنجزت العديد من الكتب البحثية في الفنون التي تؤرخ وتوثق للحركة التشكيلية في فلسطين، كما تعمل على إنجاز مشروع كبير حول مجزرة كفر قاسم، ومشروع آخر عن أشجار الزيتون التي يتعامل معها الاحتلال الإسرائيلي بشكل قمعي كما يتعامل مع الشعب الفلسطيني.
أشجار الزيتون والتطريز الفلاحي والقرية الفلسطينية والمرأة موضوعات حضرت كذلك في أعمال الفنانة فيرا تماري، التي تحدثت بدورها عن الفن الفلسطيني منذ أواسط السبعينات وحتى أواسط التسعينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي وصفتها بـ"تحدي الاحتلال".
وأوضحت تماري أن فترة السبعينات شهدت نشوء مؤسسات تعنى بالفن، كتجمع الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، ومسرح الحكواتي.. كما امتازت هذه المرحلة بتوظيف التراث الفلسطيني، وشهدت شيوع رسوم الجداريات التي ترافقت مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وارتكاب عدد من المجازر البشعة التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني.
وأوضحت تماري أن معظم المعارض التي كانت تقام آنذاك جاءت بمجهود فردي، وأن الفنانين حاولوا إيصال رسالتهم المقاومة للاحتلال من خلال نشر فنونهم في القرى والمناطق البعيدة عن المدن مستخدمين أبسط الخامات والمواد، وقد كانت هذه المعارض تشهد إقبالاً من شرائح المجتمع كافة، حيث حمل الفن صبغة سياسية وعبّر عن الواقع المكلوم للفلسطينيين.
واتفقت تماري مع ما ذهبت إليه حلبي من أن الفن في فلسطين تأثر في فترة السبعينات بالواقعية وبالتعبيرية الاشتراكية، لأن معظم الفنانين الفلسطينيين درسوا في معاهد وجامعات بمصر والعراق كانت تعنى بتدريس هذا النوع من الفنون.
واستعرضت تماري عدداً من اللوحات التي تمثل تطورات الفن الفلسطيني منذ النكبة، كلوحة سليمان منصور "المرأة في الحقل" المنجزة بأسلوب كلاسيكي مؤثر، ولوحته الشهيرة "جمل المحامل"، ولوحات كامل المغني التي تعكس روح النضال والثورة، ولوحات لنبيل عناني التي تُظهر جماليات الثوب الفلسطيني وتقدم المرأة كرمز للخصب والثبات في الأرض.
وقالت تماري إنها عالجت قضية المرأة في أعمالها باستعمال مفردات التطريز على الأواني الفخارية، كما رسمت القدس بصورتها المثالية.
ومع تحولات القضية الفلسطينية، كان المشهد التشكيلي يواكب ويتأمل ويواصل تقديم إبداعات تحمل في طياتها قضية الوطن وتعبّر عن الهوية والتمسك بالجذور، ولكن وفق صيغ حداثية، وهو ما أشارت إليه تماري بقولها إن مرحلة ما بعد الانتفاضة استدعت من الفنانين التجديد في الأساليب والمواد والألوان، وهو ما جعلها تنجز لوحات ثلاثية الأبعاد تزاوج بين الرسم والنحت، كما تحررت من الشكل المغلق لإطار اللوحة، واستخدمت فنون الكولاج والتصوير والأعمال التركيبية، ومن ذلك أنها أنجزت في عام 2002 عملاً تركيبياً مكوناً من 600 قطعة من الفخار تمثل أشجار الزيتون، وكانت رسالة هذا العمل تقوم على أن كل شجرة يقطعها الاحتلال أو يحرقها لن تموت، وإنما ستظهر شكلاً نحتياً خالداً عبر العمل الفني.
كما أنجزت تماري عملاً تركيبياً أطلقت عليه اسم "ماشيين" مكوّن من سيارات دمرتها دبابات الاحتلال الإسرائيلي، قامت الفنانة بجمعها ووضعها على شارع دائري في حديقة عامة بفلسطين، ووضعت داخل كل سيارة مسجلة صوت في إشارة إلى تحدي الاحتلال، وهو العمل الذي أحدث ضجة ودفع قوات الاحتلال إلى تدميره وهرس السيارات فيه بشكل كامل.
أما خالد حوراني الذي ساهم في تأسيس الأكاديميّة الدوليّة للفن في فلسطين، وأدار قسم الفنون الجميلة في وزارة الثقافة الفلسطينيّة، فتحدث عن أعماله ومشاريعه التي تبدو بسيطة في شكلها الفني، ولكن القصص التي تقف خلفها عميقة، وهي تتخذ من الأساليب الفنية الحديثة مادة لتوصل رسالتها القائمة على المشاركة والتفاعل والحوار.
من تلك المشاريع "حجر المسافة" الذي طلب فيه حوراني من الجميع داخل فلسطين وخارجها أن يصمموا حجراً يشبه تلك الحجارة الإرشادية القديمة الموجودة في القدس، ويقيسوا المسافة التي تفصلهم عن القدس قبل أن يضعوا الحجر كنصب تذكاري في المكان الذي يختارونه. مشيراً إلى أن فكرة هذا المشروع جاءت لتتحدى الاحتلال الذي يحاصر الفنون الفلسطينية ويمنع دخولها أو خروجها وكل فضاء من الممكن أن تعبر عنه.
ولفت حوراني إلى أن مشاريعه تقوم في أغلبها على السخرية السوداء، ومنها جدارية كبيرة رسم عليها بطيخة، رداً على الاحتلال الذي منع الفنانين من رسم علم فلسطين أو حتى استخدام ألوانه في إنجاز اللوحات.
ومن مشاريعه أيضاً "نسخة حمار وحشي" الذي اعتمد على طلاء حمار في حديقة للحيوان في غزة بالأبيض والأسود ليبدو كالحمار الوحشي، في إشارة صريحة للحصار المفروض على القطاع، وقد رسم حوراني بطاقات بريدية عليها صور لأجزاء من جسد الحمار، حملت عنوان "الحصار الوحشي".
وناقشت الجلسة جملة من الأسئلة المتعلقة بواقع الفن الفلسطيني ومستقبله، وإذا ما كان سيقع بفعل التكنولوجيا وتعدد وسائط الفن في فخ التقليد والاستنساخ، وربما الانسلاخ عن قضيته. كما تساءل الجمهور عن تلك الفجوة التي بدأت تظهر بين المتلقي والفنان التشكيلي وكيفية تجسيرها قبل أن تتسع أكثر.