■ الحمـد لله حمـدا كـثـيرا مباركا فـيه كما يحـب ربنا ويـرضى، أرسـل الرسـل عـليهـم السلام تتـرا، والصلاة والسلام عـلى المبعـوث رحـمة وبشـرا، وعـلى آله وأصحـابه أجمعـين، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان يـوم الـدين وبـعـد:
فـمـن شـك أو أنـكـر أو ارتـاب فـقـد كـفـر، وإنما عـلينا أن نـقـف عـنـد حـد تفـويض الأمـر إلى الله، فـلا نـبحـث وراء ذلك فـيقـول أحـدنا: كـيف تـرى جـهـنم وكـيف تسـمع وكـيف تجـيب؟ كل هـذا لا يعـنيـنا، فمـاذا عـرفـنا مـن أمـور الغـيب حـتى نـسأل هـذه الأسـئلة؟وماذا عـرفــنا عـن طـرق الـوحـي؟، سـواء التي بـين الله والمـلائكـة، أو التي بـين المـلائكـة وبـين الـرسـل مـن البـشر؟ بـل ما لـنا وللأمـور الغـيبية؟، فهـنالك أمـور في عـالم الشـهـادة لا يـعـرفها الناس، وما عـرفـوه لا يـعـادل مـقـدار الـذرة بالنسبة لعـلم الله، الـذي يـقـول في حـق نفـسه: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لـقـمان ـ 27).
فـكـم مـن كلمة نعـرفهـا نحـن؟؟ وإذن، كل شـك وكل إنـكار لهـذا، فهـو كـفـر صـراح وكـل بحـث في هـذا خـطـر كـبير، لأنه يـؤدي إلى الشـك والإنـكار، وليس لأخـد أن يـتـدخـل في هـذه المغـيبات، فهـذا الـرسـول (صـلى الله عـليه وسـلم) نفـسه لم يتـدخـل فـيها، ولا الصحـابة ولا التابعـون، فـكـذلك عـلينا نحـن أن نـؤمـن ونصـدق ونـقـف عـنـد هـذا الحـد ولا نتـجاوزه.
قال الله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (ق ـ 31)، (أزلـفـت) يعـني :قـربت الجـنة، وزلـف يعـني قـرب، ومـنه قـوله تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الـزمـر ـ3)، وتقـريب الجـنة سـر من أسـرار الله تعالى، وللجـنة شـوق إلى اسـتقـبال وفـد الله وفـد الـرحـمن، الـذين عـبـدوا الله عـلى ظهـر الأرض وأطاعـوه وفـوضـوا أمـرهـم إلـيه، وإذا عـصـوه غـفـلة عـن غـير قـصـد استغـفـروه، ولـم يـأتـوا إلى يـوم القـيامـة إلا وهـم أطـهـار مطهـرون، قـد غـفـرت ذنـوبهـم، فـيتـلقـاهـم الله وفـدا، ويـتـقـبلهـم بـقـبـول حـسـن، ويـنادي عـليهـم: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفـجـر ـ 27/30).
يا تـرى هـل يـزلـفها الله تعالى إكـراما لعـباده المتـقـين، حـتى لا تكـون بينهـم وبينها مسافـة طـويـلة؟، هـل تكـون فـيها حـركـة انتـقـال مـن مـكان إلى مـكان؟، لا نعـلم ذلك ولـكـن هـكـذا يـقـول الله تعالى، وكـلامه حـق ويجـب أن نـؤمـن به ونفـوض الأمـر إليه مـن غـير أن نعـلم حـقـيقة هـذا القـرب، ولا مـعـناه ولا كـيفـيته، وعـودوا أنفـسكـم تصـديق ما جـاء في كـلام الله تعالى، تعـودوا الإيـمان والتـيقـن واطـرحـوا الشـكـوك والـريـب.
وقـوله: (غـير بعـيـد) مـن باب تأكـيـد الشيء بنفي ضـده، وهـذا معـقـول ومشهـور في العـربية، فـقـد يصـف أحـد إنسانا فـيقـول فـيه : هـو عـالم غـير جـاهـل، ولـو أن وصـفه بالعـلم ينفي عـنه الجهـل، ولـكـنه تـوكـيـد، ومثـله قـولـك: فـلان غـني غـير فـقـير، أو فـلان عـزيـز غـير ذليـل، أو فـلان شـجاع غـير جـبان، فهـو يـصف شـيئا بـوصـف ثـم يـؤكـد هـذا الـوصـف بنفي ضـده، كـذلك أراد الله تعالى هـنا أن يـركـز في عـقـولنا هـذه المـكـرمة التي كـرم الله بها عـباده المـؤمنـين فـيقـرب إليهـم الجـنـة، فـقال: (وأزلـفـت الجـنـة للمـتقـين) ثـم أكـد هـذا المعـنى بـقـوله: (غـير بـعـيـد) فهـو يـقـربهـا منهـم حـتى لا تكـون هـنالك مسافة بعـيـدة بينهـم وبينها فـيتعـبـوا في قـطعـها، والمـراد بهـذا التعـبير هـو المبالـغـة في الإكـرام، وهـذا ما نسـتفـيـد ه مـن مجـمـوع الآيات الـواردة في المـوضـوع.
قال الله تعالى: (هـذا ما تـوعـدون لـكل أواب حـفـيـظ) (ق ـ 32)، (هـذا ما تـوعـدون) عـنـدما تقـرب إليهـم الجـنة يـقال لهـم: هـذه هـي الجـنة التي وعــدتم بها وأنتـم في الـدنيا، ولـذلك عـبر بالفـعـل المضارع فـقال: (مـا تـوعـدون) يعـني: لـقـد تكـرر هـذا الـوعـد في الـدنيا مـرارا، وبـكل كـيفـية ووسـيلة، لـقـد جـاء به كل رسـول وكـل نـبي، كـما خـاطـبهـم الله تعالى بـلفـظ القـريب (هـذا)، ولـم يـقـل (ذلك)، يعـني هـذا ما تـوعـدون به حـاضـر بين أيـديـكـم، واقـتضـت حـكمة الله تعالى وهـو يتـكلم عـن أحـوال القـيامة، وعـن ازدلاف الجـنة للمـؤمـنين، أن يـذكـرنا بالصـفات التي يسـتحـق بها الناس دخـول الجـنة فـقال:(هـذا ما تـوعـدون لـكل أواب حـفـيظ)، كأنه قال: مـن هـم أولـئـك الـذين يسـتحـقـون أن تقـرب إليهـم الجـنة فـيـدخـلـوها؟، فالمقام يـقـتضي ذكـر الصـفات لـيـذكـرنا بها حـتى لا يطـمع إنسان ويـترك الفـرائض، أو يـرتكـب المعاصي ولا يـتـوب مـنها، أن يـكـون مـن أولـئـك الـذين أنعـم الله عـليهـم وحـتى لا يـيأس مـذنب أواب رجــاع إلى الله، كـلما أذنب ذنبا أحـدث له تـوبة أن يـكـون منهـم، وهـذا سـر الجـمع بين الـوصـفـين الأواب والحـفـيظ.
(الأوّاب) هـو الـرجّاع، و(آب) بمعـنى رجـع، تقـول: آب فـلان من سـفـره إذا رجـع إلى أهـله و(الأواب): صـيغـة مبالغة من آب : يـؤوب، ولم يـقـل الله تعالى لـكل آيـب ، والأيـب اسـم فـاعـل يقـابله الغائـب ، ولـكـن قال: (أواب): كـثير الأوبة أي يـذهـب ويـرجـع، ويـذهـب ويـرجـع وهـكـذا، قـد يقـول قائـل كـيف هـذا في حـق الله تعالى؟، كيف يمكـن أن يـذهـب ويـرجـع؟، ولـكـن إذا كان المـرء أوابا، أي كان يـؤوب ثـم يـؤوب، ثم يـؤوب، طـبعا لا بـد أن تكـون هـناك غـيبة بـين كل أوبة وأوبة، وإلا فـلـو لم تكـن بين كل أوبتين غـيبة فـكـيف أن تكـون أوبة، ولهـذا المعـنى كان هـذا التعـبـير.
إن الآية مهـمة في معـناها، وعـلى المـؤمـن ان يتعـلـق بها، لأنها تقـوي الـرجـاء في قـلبه، فـكلما أغـوته نفـسه الأمارة بالسوء، وكلما غـره شـيطانه مـن الإنس أو من الجـن عـاود الـرجـوع، وهـنا مكـمن الحـكمة، فـلسنا نحـن البشـر مـلائكة، إننا نـبعـد عـن الصـراط ونـرجـع، ومـن ذا الـذي يـزعـم ويـقـول: إنني مـنـذ أن بـلغـت الحـلم لم تـزل قـدماي عـن الصـراط المستقـيم؟، إنه لا يمـكـن هـذا أبـدا فـلا بـد أن تبـتـلى أيها الإنـسان بشيء، ولـكـن يجـب عـليك أن يـكـون حـبلـك مـوصـولا بالله دائما، فـكلما غـبت عـنه ارجـع إليه، وكلما جـذبتـك نفـسك أو غـرك شـيطانـك عـد إلى جـادة الطـريـق المستقـيم، مـن باب قـوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعـراف ـ201)، وبهـذا تكـثر الأوبـة، كما ورد في الحـديث: (ما من مـؤمـن يـرتكـب ذنبا ثـم يـتـوضأ ويصلي ركـعـتين ثـم يسـتغـفـر الله إلا غـفـر له) هـذا هـو (الأواب).
كـما يـؤيـد هـذا المعـنى كـذلك قـوله:(حـفـيـظ) أي كـثير المحـافـظـة لأمـانة الله، وقـد وضـع الله تعالى أعـناقـنا أمانة التكـليف، التي عـرضها الله عـلى السـماوات والأرض والجـبال فأبـين أن يحـملنها وأشـفـقـن منها وحـملها الإنسان ، لظـلمه وجهـله ، وأمانة الله هي أوامـره ونـواهـيه، فالحـفـيظ هـو مـن يحافـظ عـلى هـذه الأمانة ولا يضـيعها فإذا بـدر مـنه شـيء مـن المعـاصي عـاد إلى ربه بالتـوبة منها ، فهـو محافـظ دائمـا عـلى الأصـل ، كلما زلـت به قـدمه بقـيت قـدمه الأخـرى ثابـتة عـلى الطـريـق، ومـثـل المـؤمـن الأواب مـثـل الـذي يسـير في طـريق فخـرجـت مـنه رجـل وبـقـيت فـيه الـرجـل الأخـرى، أو كـمـن يسـوق سـيارة فخـرجـت إحـدى عـجـلاتها عـن الطـريـق وبقـيت الأخـرى، وكـثيرا ما يـقـول بعـض السائقـين الـذين ينعـسـون وهـم يسوقـون السيارات، لـقـد غـشيني النعـاس وأنا أسـوق ولـكـن الله سـلم، لـقـد خـرت عـجـلة عـن الطـريـق وبقـيت الأخـرى ثـم رجـعـت، وهـذا أمـر مـعـروف لـدى السائقـين.
فـعـلى هـذا يجـب عـلى المـؤمـن أن يحـافـظ عـلى صـلته بالله تعالى، ولا يـقـطـعـها ولـو كان يـرتكـب المعاصي في بعـض الأوقات، لأنه قـد يخـرج عـن جـادة الطـريق لكـنه سـرعان ما يـرجـع إليها، لأنه مستمسك بالعـروة الـوثـقى وهـذه هي حقـيقة المحـافـظـة، فالجـمع بـين الـوصـفـين: (أواب ـ حـفـيظ) جـمع بـديـع لأن المـرء لا يـكـون أوابا إلا إذا كان حـفـيـظا، ومن أنـكـر أوامـر الله ونـواهـيه، وراح يسـخـر منها فـهـو مضـيع غـير حـفـيـظ، ولا يمـكـن له أن يـؤوب إلى الطـريـق إذا خـرج منها.
قال الله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ( ق ـ 33)، (مـن خـشي الـرحـمن بالغـيب) هـو الـذي لم يقـل : وما يـدريني هـل الله مـوجـود أم لا؟ أو كـيف أعـبـد مـن لا أراه؟، كما يـقـول الكـفـرة المـلاحـدة، والمـلاين من شـباب العـالم المنحـرفـين، الــذين جـرفـتهم الفـلسفة المادية فانـكـروا وجـود الله ، وأنـكـروا كـل شـيء مغـيب لا تلمسه أيهـديهـم، ولا تـراه أعـينهـم، ولـكـن سـتأتيكـم سـكـرة المـوت بالحـق فـتـؤمـنـوا عـنـدئـذ،أما نحـن فـنـؤمـن بالله تعالى ونتـيقـن بـوجـوده مـن خـلا آثاره في خـلـقه.
وفي معـنى: (مـن خـشي الرحـمن بالغـيب) أن تـكـون خشيته لله في غـفـلة مـن الناس، في مـكان خـال في جـوف مظـلم لا يخـشى إلا الله لأنه يخـاف مـن سـطـوة عــقـابه0 ■
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله ،،،

ناصر بن محمد الزيدي