[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
” .. لعل من أقرب التعريفات الى الواقع، ما ذكره "غرامشي" في تعريفه لمعنى المثقف، لذا يرى المثقف، من خلال وجوده الاجتماعي... وإذ ذاك فإن نقل الثقافة من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص الى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف عند المفكر الإيطالي. غرامشي لا يرى المثقف الا في وظيفته النضالية، التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير... وهكذا دواليك.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
في البدء كانت الكلمة، والقراءة: هي حبل التواصل مع الحياة،هي جسر التفاهم مع الحضارة والتاريخ والمعرفة والعلم ... هي قبل كل شيء .. حياة. أمتنا العربية ازدهرت حياتها الأدبية حتى في العصر الجاهلي، ولهذا اشتهرت أسواق الشعر : عكاظ ، مجنة وسوق ذي المجاز. جاء الإسلام وكانت الآية الكريمة التي ابتدأت بكلمة: إقرأ. النبي الكريم(ص) حضّ على طلب العلم ولو في الصين. الحضّ على المعرفة دعت إليه كل الأديان، وكذلك الشرائع : من شريعة أورنامو مرورا بشريعة آشنونا وصولا إلى شريعة حمورابي، وكذلك البوذية. لعلني أستشهد ببعض ما قيل عن القراءة: عباس العقاد( صاحب العبقريات الخالدة) يصف القراءة: "بأنها تطيل العمر" . أما الجاحظ فيصفها قائلا : "يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره". أما فرانسيس بيكون فيقول: "القراءة تصنع الرجال". بدوره فإن مونتين يصف القراءة: بأنها الصديق الذي لا يخون طيلة الحياة .
بعد ذلك، فلنجعل الحقائق والأرقام تتحدث عن نفسها، وعن نسب قراءة أبناء امتنا، ومقارنة النسب مع مثيلاتها عند الشعوب والأمم الأخرى (معتمدا في ذلك على إحصائيات منشورة لكل من :مؤسسة الفكر العربي، التقارير الثقافية العربية، تقارير إنمائية للأمم المتحدة عن العالم العربي، المكتبة المتنقلة، مؤسسة الشمس دوت كوم، وغيرها). معدل قراءة الفرد العربي 6 دقائق سنويا، أو ربع صفحة من أحد الكتب. ما يطبع في العالم العربي مجتمعا 17 ألف كتاب في السنة. سوق الكتاب العربي بيعا وشراء لا يتجاوز4 ملايين دولار سنويا، كل 300 ألف من العرب يقرؤون ما مجموعه: كتابا واحدا سنويا. نصيب كل مليون عربي هو 30 كتابا في السنة. أما على صعيد الكتب المترجمة من لغات اخرى فإن: نصيب كل مليون مواطن عربي هو 4.4 كتاب سنويا. معروف أن الناشرين يطبعون من كل كتاب جديد (باستثناء كتّاب مثل هيكل وغيره ) 2000 – 3000 نسخة في اكثر الحالات!. معروف ان المؤلف العربي لا يتقاضى عن إبداعاته سوى بضع مئات (أو قليلا من الآلاف في أحسن الحالات!) من الدولارات!. أما الكتب الأكثر مبيعا في معارض الكتب العربية، فغالبا ما تكون: كتب الأبراج ،وتعليم الطبخ، ومذكرات وفضائح الفنانات والفنانين. نعود إلى النسب في الدول الأخرى: معدل ما يقراه المواطن الاميركي 11 كتابا في السنة. اما البريطاني فـ 8 كتب. الكيان 7 كتب. معدل الكتب التي تصدر في الكيان 40 ألف كتاب سنويا. نصيب كل مليون مواطن في الكيان على صعيد الكتب المترجمة 580 كتابا سنويا. معدل قراءة الأوروبي 200 ساعة سنويا. قيمة سوق الكتاب في دول الإتحاد الأوروبي 12 مليار دولار سنويا. النسب توحي: بتواضع قراءة أمتنا العربية.
حتى اللحظة، فإن تعريفا محددا للمثقف لم تجر صياغته، انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها اليه، وانطلاقا من رؤية دوره: إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي او في سياسة التغيير المجتمعي، فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم ابن خلدون، الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل (اصحاب القلم) و(الفقهاء) و(العلماء) والذي افرد فصلا كاملا من مقدمته، أكد فيها: ان العلماء من بين البشر، هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها.
ولعل من اقرب التعريفات الى الواقع، ما ذكره "غرامشي" في تعريفه لمعنى المثقف، لذا يرى المثقف، من خلال وجوده الاجتماعي... وإذ ذاك فإن نقل الثقافة من عالم الافكار واهتمامات ذوي الاختصاص الى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف عند المفكر الإيطالي. غرامشي لا يرى المثقف الا في وظيفته النضالية، التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير... وهكذا دواليك. ووفقا لجمال الدين الافغاني، فان دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من اجل تفسير النبل الانساني واضاءة الطريق لأبناء امته، على قاعدة التمتع بالروح النقدية الفلسفية، واستخدامها في مراجعة الماضي.
والمثقفون مرتبطون ايضا في نتاجاتهم بمدى معايشتهم للواقع من حيث إدراكه ومدى التأثير فيه ،على طريق تغييره.
من أجمل من كتب في ثقافة الادب المقاوم: لويس أراغون، بابلو نيرودا، مكسيم غوركي ، ناظم حكمت، لوركا، نيكوس كازانتزاكيس، غسان كنفاني (الذي كانت في 8 يوليو ذكرى اغتياله عن طريق تفجير سيارته) ، محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد...ظلّ كل هؤلاء خالدين، أكثر من أي سياسيين سواء في بلدانهم أو على صعيد العالم ، وذهب الذين أعدموا البعض منهم وأسيادهم، إلى مزابل التاريخ .لوركا كان يلقي شعره في لحظة إعدامه . بابلو نيرودا وعندما جاء قطعان بينوشيت ( بعد انقلابهم الأسود على الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي) جاؤوا ليفتشوا بيته بحثا عن السلاح ؟ طردهم وقال جملته الشهيرة : سلاحي هو شعري. كازانتزاكيس يقول عن المقاومة، وعلى لسان الراهب "ياناروس" في رائعته "الإخوة الأعداء"، ذلك بعد أن فشلت كل دعواته إلى :الإخاء والمحبة والسلام من إخراج المحتلين لأرضه ووطنه اليوناني، وصل إلى نتيجة ،مفادها: "أيتها الفضيلة تسلّحي..أيها المسيح تسلّح .. إني سأعلن الإنجيل الجديد في كل مكان "إنجيلا مسلحا". يقول محمود درويش "هزمتك يا موت الفنون جميعها .. هزمتك يا موت.. الأغاني" وهكذا توفيق زياد وسميح القاسم ومن قبل عملاق الأدب الفلسطيني والعربي والإنساني المقاوم الشهيد غسان كنفاني. وهكذا يكون الارتباط بين أدب المقاومة وبين السياسة والثقافة...فهذا الأدب هو ثقافة وسياسة أيضا.
السياسة تفرض ذاتها على كل مناحي الحياة.. السياسة: هي فن إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتُعرّف إجرائيا حسب (هارولد لاسويل) بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على المصادر المحدودة متى وكيف، أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة (ديفيد إتسون)، وعرّفها الشيوعيون بانها دراسة العلاقات بين الطبقات، وعرّف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن (غورباتشوف): أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا! لكن التعريف الأخير هو خضوع للواقع السياسي وعدم العمل لتغييره . إن عملية التغيير يتوجب أن تستند إلى الواقع ... الى كل عناصره الايجابية، الكامنة في الذهنية الجماهيرية، والتي يمكن مخاطبتها على طريق محاولة استنهاضها. وذلك من اجل ترسيخ الوعي الوطني والقومي كعامل اساسي وشرط رئيسي لإنجاح التغيير. وهكذا يكون الارتباط بين القراءة وبين الثقافة والسياسة.