ما معنى الأعراف، وما المقصود بهم؟
أصحاب الأعراف فيهم خلاف كثير بين أهل العلم، فمنهم من قال هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وقد نص المفسرون على أن المراد بذلك الصغائر لا الكبائر كما في تفسير القرطبي وغيره من كلام المفسرين وجاءت بذلك روايات إلا أنها هذه الروايات لم تصل إلى درجة الصحة التي يعتمد عليها، ومع هذا أيضا فإنه من المعلوم أن الحديث الآحادي لا يترتب عليه الأخذ بشيء من القضايا العقدية لأن الاعتقاد ثمرة اليقين، واليقين لا يكون إلا بدليل قطعي، والدليل القطعي لا يكون إلا نصاً متواتراً وذلك إما أن يكون نصاً في كتاب الله أو في رواية متواترة عن النبي عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام.
وهناك آراء أخرى متعددة تصل إلى اثني عشر رأياً، منهم من قال هم الأنبياء، ومنهم من قال هم الملائكة، ولكن القول بأنهم ملائكة بعيد لأن الله تعالى وصفهم بأنهم رجال، ومنهم قال هم الشهود الذين يشهدون على الخلق يوم القيامة، ومنهم من قال هم شهود الأنبياء الذين يشهدون لهم بالتبليغ، ومنهم ومنهم هناك آراء متعددة.
ولعل أقرب هذه الآراء إلى الترجيح قول من قال بأنهم شهود يشهدون على الناس، لأنهم يخاطبون أهل الجنة ويخاطبون أهل النار جميعاً، وهذا دليل على أنهم شهود، فلو كانوا كما قيل قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وأنهم محبوسون عن دخول الجنة ثم يؤذن لهم بدخولها، فإن الموقف يقتضي أن يكونوا مشغولين بأنفسهم لا أن يكونوا مشغولين بمخاطبة هؤلاء تارة ومخاطبة أولئك تارة أخرى، وهؤلاء هم على الأعراف.
والأصل في الأعراف أنها الأماكن المرتفعة، فالعرف هو المكان الناتئ المرتفع الذي هو في ارتفاع عن غيره، ولذلك سمي عرف الديك عرفاً لأجل سبب ارتفاعه.
فإذاً هذا دليل على أنهم في مكان مرتفع ويشرفون على هؤلاء وهؤلاء، فلا يبعد أن يكون القول بأنهم الشهود الذين يشهدون على الناس بما عملوه يوم القيامة هم أصحاب الأعراف، هذا من غير قطع، لأن القطع ثمرة الدليل القطعي، ولا يوجد دليل قطعي كما ذكرنا، وإنما نقول ذلك من باب التفسير بما يتبين من القرائن من غير أن نقطع به، والله تعالى أعلم.
ما هو تفسيركم للآية (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض)(الأنعام ـ الآية75)، وما هي أبعادها الباطنية؟
إن الله تبارك وتعالى ألهم عباده ما ألهمهم من الخير، وأقام عليهم الحجة من خلال آياته التي في هذا الكون الواسع الأرجاء المترامي الأطراف، لأن هذا الكون كما يقول أحد علمائنا وهو الشيخ ناصر بن أبي نبهان يقول:(كل ذرة من ذرات الوجود هي كلمة من كلمات الله، ناطقة بمعرفته سبحانه وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة).
يعني بذلك أن الوجود بأسره كل ذرة من ذراته إنما يعرب بلسان حاله عن افتقاره إلى واجب الوجود لذاته، فكل ما في هذا الكون من ذراته الدقيقة إلى مجراته الواسعة إنما يعرب بلسان حاله عن افتقاره إلى واجب الوجود لذاته، فالذرات الدقيقة في تراكيبها العجيبة توحي بأنه لا يمكن أن تكون وجدت هكذا إلا من قبل صانع خبير عليم بكل شيء ، محيط بكل موجود في هذا الكون، ثم بعد ذلك ما زاد على تلك الذرة، فالعناصر والمركبات والجزيئات قبل ذلك، كلها في تناسقها وترابط بعضها مع بعض يدل على وجود الله سبحانه، فإبراهيم أراه الله تعالى ملكوته في السماوات والأرض، وقد كان ـ عليه السلام ـ على مقربة من قوم يقدسون النار ويعبدون الأجرام السماوية ، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجري على لسانه من دلائل الحق على أن هذه الكائنات التي يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى ليست هي من الألوهية في شيء، يقول الله سبحانه وتعالى فيما يحكيه عنه (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) (الأنعام ـ 76)، لما رأى الكوكب قال هذه الكلمة لا لأنه يعتقد أن الكوكب هو الإله، ولكنه أراد أن يقيم بذلك الحجة على هؤلاء بأن الكوكب يظهر ويختفي وما كان كذلك فليس هو بإله، لا يمكن للإله أن يكون بهذه الحالة ، بحيث تعرض له العوارض وتمر به الحالات وتختلف معه الأعراض ، بل الإله هو ثابت سبحانه وتعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )(الشورى ـ 11(، )لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام ـ 103(، فلذلك قال:(لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) أي لا يمكن أن يكون هذا الآفل هو الإله، كيف ظهر أولاً ثم اختفى ثانياً، اختفاؤه دليل على أنه ليس بإله لأنه مرت به أحوال تدل على أنه تحول من حال إلى حال، فهذا التحول دليل على عدم ألوهيته، ثم بعد ذلك كذلك ( فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام ـ 77) ، كيف يمكن أن يكون القمر هو الإله مع أنه يأفل كسائر الأجرام السماوية، أي تعرض له الحالات بحيث يظهر ثم يختفي، ثم بعد ذلك عندما بزغت الشمس (فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام 78 ـ 79)، أراد بهذا كله عندما قال هذا ربي في رؤيته للكوكب وفي حال رؤيته للقمر وفي حال رؤيته للشمس أن يقيم الحجة على قومه.
هذا هو التفسير الصحيح، وإن ذهب آخرون إلى غير ذلك، ولكن هذا التفسير هو الذي يتفق مع دلائل العقل، فإن إبراهيم عليه السلام على الفطرة السليمة، ولما كان على الفطرة السليمة فلا يمكن أن يدّعي الألوهية لغير الله سبحانه وتعالى، ودليل ذلك قوله ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79)، فهو يعلم أن هنالك فاطراً للسماوات والأرض، وما هي السماوات إنما هذه الأجرام الفلكية هي أجزاء من هذه السماوات، فهو يعلم أن لهذه السماوات والأرض فاطراً ، فالفاطر لهذه السماوات والأرض هو المعبود بحق، وكل ما يعبد مما عداه إنما يعبد بغير حق.
وهذه فيها دلالة للإنسان بأنه عليه أن يلتمس الحق من طريقه، وأن يسلك إلى الحقيقة نهجها الذي يؤدي إليها، فالله سبحانه وتعالى جعل ما في هذا الكون بأسره بكل ما فيه شاهداً على وحدانيته تعالى، والله سبحانه وتعالى عندما خاطبنا بأعظم حقيقة في هذا الوجود وهي وحدانيته حيث قال:(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة ـ 163)، أتبع ذلك ما يؤكد هذه الوحدانية ويدل عليها من دلائل هذا الكون حيث قال:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة ـ 164).
نعم في هذه الكائنات بأسرها آيات لقوم يعقلون، كيف والإنسان يرى أن هذه الكائنات على بعد ما بينها، على بعد ما بين هذا الكون الواسع الأرجاء المترامي الأطراف هو وحدة متكاملة، كل جزء منه مكمل لبقية الأجزاء لأنه في تناسقه البديع وترتيب نظامه العجيب يكمل بعضه بعضاً، فكان بمثابة الجسم الواحد الذي له أعضاء متعددة، كل عضو منها مكمل لسائر الأعضاء، فهكذا شأن هذا الكون في تباعده وفي ترامي أطرافه من حيث هذا التناسق العجيب الذي يشد بعضه إلى بعض، والترتيب في نظامه بحيث أصبح كله يشكل منظومة واحدة في سلك واحد، فلذلك كانت في ذلك آيات لقوم يعقلون، لأن الإنسان من خلال هذا يتوصل بأن هذا الكون وحدته تدل على وحدانية خالقه سبحانه ، فهو وحدة متكاملة، ووحدته تدل وحدانية خالقه، فلو كان له أكثر من إله لأدى ذلك إلى أن يكون لكل إله من هؤلاء الإلهة إرادة مستقلة دون إرادة الآخر، وفي هذا ما يؤدي إلى التنازع والاختلاف والتنافر فيما بينهم وذلك يؤدي إلى أن تتغير هذه الصنعة عما عليه بحيث لا تكون متناسقة هذا التناسق العجيب ، وهذا ما يعنيه قول الله سبحانه:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(الأنبياء ـ 22).
فالسماوات والأرض هي عبارة عن هذا الكون الذي نراه والذي لا نراه من حيث إنه متناسق مترابط بعضه مع بعض بهذا الرباط الوثيق الذي هو بمثابة البناء الواحد كما قال سبحانه وتعالى:(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)(البقرة ـ 22(، وكذلك ما يجري في هذا الكون، فالله سبحانه وتعالى جعل أحوالاً نشاهدها في هذا الكون كلها تدل على وحدانيته تبارك وتعالى، فالله تعالى ينزل من السماء ماء، ثم بعد ذلك يترتب على نزول الماء النبات، هنالك خاصية الإنبات في الماء وخاصية النبات في التراب، وعندما تجتمع الخاصيتان يحصل النبات هذا مما فيه مصلحة (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض)(البقرة ـ 164(.
كل من ذلك إنما يؤدي إلى إدراك الإنسان أن لهذا الكون مكوناً واحداً، وهذا الذي رآه إبراهيم من خلال رؤيته لملكوت السماوات والأرض، فهو ما كان مشركاً، وإنما أراد أن يقيم الحجة على المشركين الذين كانوا يتخذون مع الله آلهة أخرى، وإن كان من المفسرين من يذهب إلى آراء مختلفة ، منهم من يقول بأن هذه مراحل للتوصل إلى الحقيقة، ومنهم من يقول بأن الكلام إنما هو على تقدير أداة استفهام أي أهذا ربي، ومنهم من يقول غير ذلك، هذه أقوال ما عليها من دليل، وإنما القول الحق هذا الذي ذكرناه.