الحمـد لله رب العـالمـين، والصـلاة والسلام عـلى سـيـد الخـلـق أجـمعـين، وعـلى آله وصحـبه ومـن تـبعـهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد:
فـإن الـتـوكل صـفة مـن صـفـات القـلـوب وليـسـت مـن صـفـات الجـوارح، فالجـوارح مـطـلـوب مـنها أن تـعـمـل، ولا يمـكـن للإنسان أن يعـطي لنفــسه عـدم العـمـل بحجـة التـوكل ، فـهـذا وما شـاكله يعـتـبر تـواكلاً، وليـس تـوكـلاً.
فـالـتـوكل يجـب أن يكـون بعـد الأخـذ بالأسـباب، وقـد رد الـرسـول الكـريـم (صلى الله عـليه وسـلـم) عـلى الـذي سـأله قـائلا: يا رسـول الله هـذه ناقـتي أأعـقـلها وأتـوكل، فـقال له:(اعـقـلها وتـوكل)، قال الله في كـتابه العـزيـز:(وما خـلـقــتُ الجـنَ والأنسَ إلا ليـعـبـدون، ما أريـد منهـم مـن رزقٍ ومـا أريـد أن يـُطـعِـمون، إنَّ اللهَ هـو الـرزاقُ ذو الـقـوةِ المـتين) (الـذاريات 56 ـ 58).
أنـظـر إلى إيـمان وتـوكـل النبي إبـراهـيـم خـليـل الـرحـمـن ـ عـليه السلام ـ إذ تـرك امـرأته وولـده إسـماعـيـل رضـيـعـاً، في مـكان لـيس فـيه أبسـط مـقـومات الحـياة وهـو الماء، وعـنـد ما قـالت له زوجـه هـاجـر ـ عـليها السـلام، أتـتركـنا في هـذا الصـحـراء الجـرداء، التي ليـس بها نقـطـة ماء واحـدة، أنـت تـفـعــل هـذا بأمـر الله أم بأمـرك أنـت؟.
فـقال لها إن ذلك بأمـر الله، قالـت: إذن: لا يضـيـعـنـا الله، إيـمان بالله وثـقـة عـظـيـمة، وذكـر طـيـب لا ينـقـطـع، وتـوكل لا شـائـبة فـيه، ذكـر خـالـد إلى أن يـرث الله الأرض ومـن عـليـها لـذلك المـوقـف الإيـمـاني مـن تلك الأسـرة المـباركة.
إذن: فهـي آمـنـت أن ما دام ذلك بأمـر الله، وما دام ذلك أمـراً، فإن الله قـد أعـد لها مخـرجـا مـن كل ضـيـق، ولـكـن هـل مـنعـهـا إيـمانها ذلك، أن تأخـذ بالأسباب حــين عـطــش ولــدها إسـماعـيـل ـ عـليه السلام، أن تـذهـب إلى جـبـل الصـفـا بحـثا عـن المـاء ثـم انتـقالها إلى جـبـل المـروة ، قاطـعـة الـوادي عـلى صـعـوبـته ، بحـثا أيضا عـن الماء عـلها تـرى بعـض الـمـارة، فـتطـلـب منهـم الماء، أو لعـلها تـرى طـيـرا تهـتـدي به إلى عـين مـاء أو وجـود بـئر، وكان يـكـفـيها لـو اقـتـصـرت عـلى مـرة واحـدة مـن البحـث لكـي تـبرر مـوقـفها ، ولا تـعــب نـفـسـهـا وتسـعـى سـبـع مـرات وأنها أخـذت بالأسـباب ولكـنها اجـتهـدت وأجهـدت نفـسها حـتى اســتـنـفدت قـواها ، ووقـفـت عـنـدما يئـسـت، فأتـمـت السـبعـة الأشـواط، وكانـت النتـيجـة بالظـفـر بالـماء إذ فـجـر الله لهـا ولـولدهـا بـئـر زمـزم ، وخـلـد الله ذكـرهـا بـعـد ذلـك بأن جـعـل تـلك الخـطـوات نـسكا مـن مـناسـك الحـق والعـمـرة إلى أن يـرث الله الأرض ومـن عـليها، قال الله تعالى:(إن الصـفـا والمـروة مـن شـعـائـر الله فـمـن حـج الـبيـت أو اعـتـمـر ، فـلا جـنـاح عـليه أن يطـوف بهـمـا ومـن تطـوع خـيرا فإن الله شـاكـر عـليـم) (البـقـرة ـ 158).
إن السبعة الأشـواط هـو أقـصى ما يمكـن أن تبـذله مـن المجـهـود امـرأة مثـلها ، فـلما اسـتـنفدت قـواها باتخـاذ الأسـباب فـرج عـنـها كـربـتـها خالـق الأسـباب وهـكـذا يـجـب عـلى كل إنسان أن يأخـذ بالأسـباب، والله هـو خـالـق الأسـباب، والمتصـرف في الأسباب.
إذن: هي لإيمانها القـوي، بأن الله لا يضيعـها وابنها، وأن وجـودهـا في ذلك المكان المقـدس بأمـر الله، ولله لـه حـكـمـة في ذلك، فأراد الله أن تـبـدأ الحـياة في ذلك المـكان بـوجـودهـا ووجـود ولــدها إسماعيل جـد النبي (صـلى الله عـليه وسـلـم).
ورغـم ذلك لم تـترك الـعـمـل والسـعي فأخـذت بالأسـباب، فـسـعـت بين الصـفـا والمـروة، حـتى تعـبـت، ولـم تسـتـطـع مـواصلة السعي أكـثر مـن سـبعة أشـواط وهـي مسافـة كـبيرة، إذا ما قـيـسـت بمـا كانـت عـليه تـلك المـسافـة مـن الأحـجـار، لأنها كـانت واديـاً، ومـن رزق الـذهـاب إلى تلـك الأماكـن المقـدسة وسـعى بـين الصـفا والمروة عـلم الجـهـد الـذي بـذلته أم النبي إسـماعـيـل، في سـبيـل البحـث عـن الماء رغـم ما أدخـل عـلى ذلك المكان، مـن التحسينات في سـبيـل راحـة الحجـاج والمعـتـمـريـن.
إن الحـكمـة تكـمـن في السـعي والأخـذ بالأسـباب، ما يحـصـل عـلـيه الإنسـان مـن النـتـيـجة الطـيـبة والـشـعـور بالـراحـة النفـسية، بـعـد التعـب وبـذل الجـهـد وما عـنـد الله خـير وأبقـى للعاملـين المخلصـين.
ولـقـد أراد الله سـبحانه وتعـالى، أن يـبين لنا مـن خـلال ما قامـت به أمـنا هـاجــر عـليها السـلام في سـبيـل البحـث عـن الماء ، مـن بـذل الجـهـد والسـعي الدءوب، إذ لـو أنها وجـدت الماء أثـناء البحـث والسـعي، لـربما تصـور الإنسان أن الأسباب هي الـتي أوجـدت النـتـيجـة، ولكـن النـتـيجـة جـاءت بعـد الأخـذ بالأسـباب، مـن عـنـد الله خـالـق الأسباب، فــزاد إيمانها رسـوخـا بأن الله مـعـها وابنـها إسـماعـيـل ـ عـليه السـلام، بحـفـظـه ورعايـته لها ولـولـدها، وأن ما قـامت به هـو واجـب العـمـل والسعي.
ثـم إن الله العـلـيـم الحـكـيـم، أراد أن يخـلـد ذلك المـوقـف العـظـيـم، الـذي قامـت به أمـنا هـاجـر، فـكل حـاج أو معـتـمـر يـتـذكـر وهـو يـسعى بـين الصـفـا والمـروة، سـعـي أم إسـماعـيـل، والله هـو الـذي شـرع لـنا ذلـك النـسـك بقـوله سـبحانه وتعالى:(إن الصفا والمـروة مـن شـعـائـر الله فـمن حـج أو اعـتـمـر فـلا جـنـاح عـليه أن يـطـوف بهـما ومـن تطـوع خـيرا فـإن الله شـاكـر عـلـيـم) (البـقـرة ـ 158).
كـذلك يسـتـفاد مـما قامت به هـاجـر أم إسـماعـيـل مـن المجـهـود، وأنها لـم تجـد الماء أثـنـاء السـعي والبحـث عـنه، وإنـما لما أعـيتها الأسـباب ووقـفـت عـاجـزة وجـدت الماء يـنـبع مـن تحـت قـدمي النبي إسـماعـيـل ـ عـليه السـلام ـ وجـدت الماء في غــير الجهات التي كانت تبحـث عـنه فـيها، وكأن الله أراد أن يـقـول لها : أنـت سـعـيت وعـملت قـدر جـهـدك وطاقـتـك، وأنا لـم أخـيب ظــنـك في، فأخـرجـت الماء لـك ولـولـدك وللناس الـذين يأتـون إلى هـذا البيـت حـجـاجاّ وزواراّ وعـمـّاراً، فالله هـو الخـالـق والمـدبـر والـرازق، وهـو عـلى كـل شـيء قـديـر، وأن الله جـعــل المـاء الـذي تبحـثـين عـنـه بـين الصـفـا والمـروة، هـو في غـير ذلك المـكان، وهـذا في حـد ذاتـه يـزيـل أي شـبهـة أن المـاء جـاء بالأسـباب.
فـمن هـنا: فإننا نسـتـنتـج بأن الـتـوكل عـلى الله هـو مـناط القـلـب، ولـيس عـمـل الجـوارح، والناس يأخـذون الـتـوكل عـمـل الجـوارح، فـيخـطـئـون الطـريـق الصحيح للـتـوكل، وقـصـة مـريـم ابنة عـمـران شـاهـد عـيان كـذلك، قال الله تـبارك وتعـالى: (وهـزي إليك بجـذع النخـلة تساقـط عـليك رطـبا جـنيا) (مـريـم ـ 25).
أليـس الله قـادرا عـلى أن يـرزقـها مـن غـير سـبب وتعـب، وقـد رزقـها الله بغـيـر سـبب لما كانت تحـت كـفالة النبي زكـريا عـليه السـلام ، وهـي صـغـيرة ضـعـيفة وكان النبي زكـريا يأتيها بما يلـزمها ، مـن الـطـعـام والشـراب ، فـفـوجـيء ذات يـوم بـوجـود طـعـام ورزق عـنـد مـريـم ، فـجـعـله يتـسـاءل مـن أين لـمـريـم ذلـك الـرزق قائـلا:(وكـفـلها زكـريا كـلما دخـل عـليها زكـريا المحـراب وجـد عـنـدها رزقا قال يا مـريـم: أنى لـك هـذا؟ قالت : هـو مـن عـنـد الله: إن الله يـرزق مـن يشـاء بغـير حساب) (آل عـمـران ـ 37).
.. وللحديث بقية.

ناصر بن محمد الزيدي