إعداد ـ مبارك بن عبدالله العامري:
من النعم التي منَّ بها الرحمان علينا نعمة الصحة والعافية، يقول العزيز العلام: (وما بِكم من نِعمةٍ فمنَ الله)، وهذه النعمة العظيمة التي لم يعرف الناس قدرها وقيمتها.
فنعمة الصحة والعافية نعمة عظيمة على الإنسان، ولكن الناس لطول الفهم للصحة والعافية لا يعرفون قيمة هذه النعمة، وقد قيل في المثل: (الصحة تاج على رءوس الأصحاء)، ولا يعرفها إلا المرضى، فالإنسان المريض يكون ضعيفاً ولا يستطيع القيام بأمور الحياة على الوجه المطلوب، وأما الإنسان القوي فإنه يقوم بمهامه خير قيام، ولهذا امتدح الله ورسوله القوة، فقد جاء على لسان ابنة شعيب عن موسى ـ عليه السلام ـ قولها:(يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص ـ 26)، وكما قال الله عن طالوت:(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(البقرة ـ 247)، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم):(المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، رواه مسلم.
فالصحة نعمة عظيمة يجب على الإنسان أن يحس بها، وأن يقوم بشكرها، فالإنسان لو أصيب بأدنى مرض فإنه لا يجد طعم الحياة، إذا قد يتمنى بعضُ المرضى الموت؛ لشدة الآلام التي يجدونها، لكن كما أن المرض ابتلاء عظيم يمتحن الله به الناس، فإن فيه من النعم العظيمة ما الله به عليم، إذا علم المرء أن هذا من البلاء وصبر واحتسب أي: صبر على المرض نال الأجر العظيم، ففي المرض حط للذنوب، وتكفير للسيئات، والله تعالى إذا أحب عبده المؤمن فإنه يبتليه بشتى الابتلاءات، وإذا صبر فإن له أجراً عظيماً، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)،
لقد ابتلى الله تعالى أيوب ـ عليه السلام ـ بالمرض، فقال الله عنه:(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص ـ 44)، ثم بسبب صبره وأوبته إلى الله امتن الله عليه بالصحة والعافية، قال الله عنه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء 83 ـ 84) ، ولقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس :الصحة والفراغ)، وقال أيضاً ـ صلوات ربي وسلامه عليه:(إن أول ما يسأل عنه العبد من النعم يوم القيامة أن يقال له: ألم نُصحَّ جسمك، ونرويك من الماء البارد)، وأخرج ابن أبي الدنيا عن وهب ابن منبه قال: (رءوس النعم ثلاثة: أولها نعمة الإسلام التي لا تتم النعم إلا بها، فاحمد الله على هذه النعمة العظيمة. والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها. والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها)، فنعمة الصحة العظيمة لا يعرف قدرها ولا قيمتها إلا من فقدها، يقول بكر بن عبد الله المزني: (يا ابن آدم إذا أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فَغْمِضْ عينيك) ومتى ما أراد الإنسانُ أن يعرفَ قدر نعمة الصحة التي تفضل بها عليه أرحم الرحمين، فليذهب إلى المستشفيات لزيارة مرضى المسلمين، ولينظر إلى من هم حوله من المبتلين! وإلى من فقد أحد أعضائه وكذلك إلى المعاقين فهؤلاء شفاهم الله، لو أنهم خُيروا بين أموال الدنيا! وسلامة الجسد! لاختاروا بلا شك! نعمة الصحة والعافية من المرض بإذن رب العالمين.
جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له: أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟، قال الرجل: لا قال: فبرجليك؟ قال الرجل: لا، فذكّره يونس بن عبيد بنعم الله عليه ثم قال له: أرى عندك مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة!.
لذا فإن نعمة الصحة مِنَّة جليلة وعطية كريمة، فعن عبيد الله بن مِحْصَن الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (من أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ له الدُّنْيَا).
يقول المناوي: يعني من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعم، لا في معصية، ولا يفتر عن ذكره، وليعلم كل من رُزق نعمة الصحة ووفق إليها، أنه مغبوط عليها وذلك لقيمتها وأهميتها، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ من الناس الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) ، رواه البخاري، ويقول ابن الجوزي: اعلم أنه قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش ، وقد يكون متفرغا من الأشغال ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا للعبد ثم غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل فذاك الغبن.كيف والدنيا سوق الرباح، والعمر أقصر، والعوائق أكثر.
إن مما ينبغي أن نعلمه أن بالشكر والإيمان تدوم وتكثر النعم،وبالجحود والعصيان تَحل وتزداد النقم، قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) (إبراهيم ـ 7)، يقول الإمام ابن القيم: وكذلك حقيقته في العبودية وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا وعلى قلبه: شهودا ومحبة وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة، والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره، فهذه الخمس: هي أساس الشكر وبناؤه عليها، فمتى عدم منها واحدة اختل من قواعد الشكر قاعدة،وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور، ومن شكر هذه النعمة نستغلها فيما ينفعنا في الدارين، ويرضي عنا أرحم الراحمين، وذلك بصرفها في فعل الطاعات والتزود من الخيرات.
.. وللحديث بقية الأسبوع القادم.