بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني الخامس واﻷربعين المجيد حضرت عدة لقاءات طوال اﻷسبوع، وكان من أكثر هذه اللقاءات والندوات مجلس كريم في بيت كريم جمع كوكبة من المهتمين بالشأن العام من أكاديميين ورجال وسيدات مال وأعمال وفكر وثقافة وخدمات اجتماعية .. وكان موضوع اللقاء يدور حول الوطن والمواطنة...والحقيقة أنه ما من قضية أثارت جدلا في الآونة الأخيرة بين المهتمين بالشأن العام من سياسيين وإسلاميين واقتصاديين واجتماعيين؛ كما أثارت قضية المواطنة،. وسوف اتناول هذا الموضوع الهام من وجهة نظر المهتمين بالجانب الشرعي. خاصة بيان حقوق غير المسلم، ومدى تمتعه بحقوق المواطنة متساويا بذلك مع المسلم، خاصة أنه لم يرد توضيح في تصورات الإسلاميين للدولة، ودور غير المسلم فيها، وتوليه من المناصب كما يتولى المسلم. ورأينا القضية تاهت بين طرفي نقيض، بين من لا يعرف رأي الإسلام الصحيح في المسألة، ولا آراء علماء الإسلام فيها، وبين من فهموا الإسلام فهما خاصا، بناء على استدعاء لآراء تمثل زمانا بعينه، لتسقط على زمان آخر، اختلفت فيه النظريات السياسية، واختلفت فيه الأزمنة والأمكنة، ولم تعد فيه الدولة كما كانت قديما بتصورها البدائي البسيط.
وسوف أتناول قضية المواطنة من عدة جهات:
الأولى: موقف الإسلام من مبدأ المواطنة، ممثلا في رسوله (صلى الله عليه وسلم)، خير من طبق الإسلام فهما وعملا ، والثانية: التطبيق العملي عبر تاريخ المسلمين، والثالثة: عن الشبهات التي تثيرها بعض النصوص الدينية، والرابعة: تفسير أسباب شيوع سوء معاملة غير المسلمين في بعض المجتمعات الإسلامية.
ولنبدأ أوﻻ ببيان موقف الإسلام من مبدأ المواطنة حيث تعتبر صحيفة المدينة، هي أبرز ما يواجهنا في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، خاصة اليهود (حيث إنهم الفئة الوحيدة المخالفة للمسلمين عقيدة من أهل الكتاب في المدينة)، ولنتأمل النص لنرى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) اعتمد فيها مبدأ المواطنة، بحيث وضعت فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة الكاملة التي يتساوى فيها المسلمون مع غيرهم من ساكني المدينة المنورة ومن حولها، ومن هذا الدستور نقرأ هذه المواد:
1ـ هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلحق بهم وجاهد معهم.
2ـ إنهم أمة واحدة من دون الناس.
3ـ وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم.
4ـ وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
5ـ وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
6ـ وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
7ـ وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
8ـ وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
9ـ وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
10ـ وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
11ـ وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
12ـ وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم.
13ـ وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
14ـ وإن بطانة يهود كأنفسهم. (بطانة الرجل: أي: خاصته وأهل بيته).
15ـ وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
16ـ وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
17ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
18ـ وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
19ـ وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم.
20ـ وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
21ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى>
محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
اعتبرت هذه الوثيقة اليهود من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصرًا من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصحيفة:(وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم)، ثم زاد هذا الحكم إيضاحًا، في فقرات أخرى فقال: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين .. الخ).
وهكذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب، الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس ـ بمقتضى أحكام الصحيفة ـ سببا للحرمان من مبدأ المواطنة.
كما عملت هذه الوثيقة على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل؛ بمفهوم الأمة القائم على الوفاق والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكوَّن لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، هي أرض الوطن.
ورسخت الأيام والمواقف هذا الاتفاق بين النبي (صلى الله عليه وسلم) واليهود، وإن قابله اليهود بالغدر والخيانة، إلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) ظل على خلقه الكريم معهم، في تمسكه ببنود هذه الوثيقة.
ولقد ترسخ هذا الفهم في نفوس المسلمين جميعا؛ لأنه شرعهم ودينهم، فرأينا جيل الصحابة، وعصر الخلفاء الراشدين ـ خاصة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يترسخ فيه هذا المعنى ويتأكد، ومن ذلك موقف القبطي الذي تشاجر مع ابن عمرو بن العاص والي مصر، وموقف عمر من هذا الخلاف.
ولما عرَّض أبو لؤلؤة المجوسي في كلامه بما يفصح عن نيته قتل عمر، واقترح أحد الصحابة سجن أبي لؤلؤة رفض عمر بن الخطاب هذا الاقتراح؛ لأنه لم يرتكب جُرْما.
ثم تجلى تطبيق مبدأ المساواة أكثر على يد فقهاء المسلمين، فرأيناهم يجيزون للمسلم أن يتصدق من ماله على غير المسلم، وأن يعطيه من النذور والكفارات، مستشهدين بآيات من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى:(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) (الإنسان ـ 8)، والآية مكية، وقد كان الأسرى حينئذ من أهل الشرك، بل رأينا من أئمة التابعين من أعطى الرُّهبان من صدقة الفطر، على ما تمثله صدقة الفطر من أهمية كبرى عند المسلم من عدة جهات.
ورأينا فقيها كابن تيمية، يضرب أروع مثل لتطبيق مبدأ المواطنة، والحفاظ على أخوة الوطن الواحد، لا فرق فيه بين مسلم وغير مسلم، وذلك عندما أُسر عدد من المسلمين وغير المسلمين عند ملك التتر، فكتب رسالة لملك قبرص يشرح له موقفا حدث له مع ملك التتر عندما أسر عنده مجموعة من أبناء الوطن، يقول ابن تيمية رحمة الله لملك قبرص المسيحي:(نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة؛ أعظم ما عُبد الله به: نصيحة خلقه .. وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم (غازان) فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون، فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذِمَّتنا، فإنا نَفْتَكُّهُم، ولا ندع أسيرا من أهل المِلَّة ولا من أهل الذمة، وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا إحساننا، والجزاء عند الله).
وعندما جاءت الحملات الصليبية لغزو بلاد المسلمين والعرب، في تسع حملات، لم يسمها المؤرخون المسلمون بالحملات الصليبية، لعدم جرح شعور غير المسلمين من أهل الصليب، بل سموها حروب الفرنجة؛ لأنهم علموا أن الغازين لم يستهدفوا المسلمين فقط، بل استهدفوا العرب جميعا للسيطرة على بلادهم وخيراتهم، وحارب المسلمون وغير المسلمين معا لصد هذا الغزو، وأصر مؤرخو أوروبا على تسميتها بالحروب الصليبية .. وعلى الرغم من هذه الصفحات المشرقة من النصوص الإسلامية، والمواقف الثابتة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين، ثم للأئمة الأعلام من بعدهم، في حسن تعاملهم مع غير المسلم في المجتمع الإسلامي، إلا أن هناك مواقف ونصوصا ربما أثارت شكوكا حول صحة ما أثبتناه من تسامح إسلامي في التعامل مع غير المسلم، ونورد بعضا من هذه النصوص والقضايا على عجالة....ومنها على سبيل المثال المادة التي تكون في دساتير الدول العربية والإسلامية والتي تنص على أن الدين الإسلامي هو دين الدولة ،وهذه قضية يثيرها العلمانيون وبعض من يجهل الشريعة الإسلامية، فيقول: وما ذنب غير المسلم أن يُحكم بشريعة غير شريعته، وأن ينص في دستور بلاده: أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، أليس ذلك من باب عدم مراعاة مبدأ المواطنة، بل يتعارض تعارضا تاما معه، بل ربما ينسفه نسفا؟!.
وجوابنا: أن هذا القول لا يصدر إلا عن واحد من اثنين: إما إنسان يجهل الإسلام جملة وتفصيلا، أو إنسان يشوه الإسلام، ويريد طمس معالمه وحقائقه جملة وتفصيلا.
إن من المعلوم لكل دارس للشريعة الإسلامية، ومن إقامة النبي (صلى الله عليه وسلم) للحدود في دولة الإسلام، أن هناك تفرقة بين ارتكاب المسلم للحدود، وبين ارتكاب غير المسلمين للحدود فيما بينهم، أو في خاصة نفسه، فمثلا: لو أن مسلما شرب الخمر فحده في الإسلام الجلد، ولو شربها غير المسلم وكانت شريعته تقضي بأن الخمر حلال، فليس للحاكم المسلم أن يقيم الحد عليه، وهذا باتفاق الفقهاء.
فكل ما هو حلال في شريعة غير المسلم لا يعاقب عليه وإن كان حراما في الإسلام، ولو أن مسلما كسر زجاجة خمر لغير مسلم يفتي معظم الفقهاء بتضمينه، وعليه دفع ثمنها له، على الرغم من التحريم الشديد في الإسلام للخمر، وكل ذي صلة بها.
وكذلك لو زنى غير مسلم بغير مسلمة فيحكم بينهما بشريعتهما لا بشريعة الإسلام، إلا إذا طلبوا هم حكم الإسلام فيهم، وارتضوه، على عكس لو سرق غير مسلم مسلما عندئذ يطبق عليه شريعة الإسلام.
ومن مفاخر تراثنا في الدولة الإسلامية أن وجدت كتب عنيت بالكتابة في التشريع الخاص باليهود والنصارى، فرأينا كتاب (المجموع الصفوي) لابن العسال، وهو كتاب في التشريع اليهودي، وكتاب (الأحكام الشرعية في الأحوال الشرعية)، وكتاب (الخلاصة القانونية) وهما في التشريع المسيحي.


أحمد محمد خشبه
إمام وخطيب جامع ذو النورين ـ الغبرة الشمالية