وكشاة تقاد إلى حتفها، حمل حقيبته الصغيرة، بعدما كنزها بملابس وأشياء أخرى لم يدر عنها في تلك اللحظة المباغتة، التي ايقظته من النوم، وهرع يجر خطاه، مثقلا بهول المفاجأة، ومتدثرا بالذهول من المجهول الذي يسير نحوه.
تململت عيناه في محجريهما لائبة بين المنزل الطيني المتهالك الذي سكنه، والرجل الذي يمشي أمامه ويستحثه المسير، وبهلع متوجسا، أعاد بصره إلى الغرفة الصغيرة التي حملت ذكرياته في هذا البلد، واستنطق ما فيها من الصور والحيوات، لكن الرجل شده من معصمه، ومضى به يحث الخطى، وهو يقذف في وجهه كلمات لم يفهمها، غير أن نبرتها توحي أن شيئا ما يدبر له، لم يكن فطنا حتى يعرف الأمر المدبر، واستسلم لقدره، كما استسلم له من قبل حينما غادر بلاده إلى هذه البلاد، تاركا حلمه يكبر بعيدا عنه.
دفع كل ما يملك، من أجل أن يصل إلى هذه البلاد، وهو الذي لم يعرفها من قبل، ولم يقرأ اسمها غير في الأوراق التي قدمت له ليضع عليها بصمته، ثم وجد نفسه يحلق بين السماء والأرض، خائفا يترقب قادم الأيام، بعدما باع دار والده، وترك أمه وبناتها يقاسون الجوع والعراء، وهو يأملهم أن القادم سيكون أفضل، وأن الحلم الصغير الذي ناموا عليه، سيصبح ذات يوم واقعا، يتقلبون في نعيمه.
لم يكن يعرف ماهية البلاد التي سافر إليها حينئذ، ولا الناس الذين سيعمل لديهم، ولم يعرف العمل الذي سيقوم به، ولا حتى المكافأة التي سيحصل عليها، ومع كل ذلك فقد ودع عائلته، وسافر إلى المجهول.
المجهول الذي يعود منه هذا الصباح، بذات الحقيبة الهزيلة التي أحضرها معه، لم يتسن له حتى إعداد الشاي الذي دأب على مكافأة نفسه به قبل يوم عمل طويل، منتظرا ما يجود به سيده من فتات فطوره المتبقي.
يستقل السيارة الواقفة بانتظاره، ويبادل سيده الصمت وهو يحسب الوقت العابر بينهما، والمسافة التي يقطعها، والطريق الذي عبره من قبل حين قدم إلى هذا المجهول.. يعود إليه ثانية، ليكون القاسم المشترك بين مجهول الأمس الذي جاء إليه، ومجهول اليوم الذي يسافر إليه.
الطريق يستقيم ويتعرج، كما الحياة التي نمشي عليها، محطات كثيرة تصطف على جانب الحياة، لا نعرف في أي محطة سنحط الرحال، وما المصير الذي ينتظرنا في كل منها، كل ما علينا القيام به هو السفر، ومن لا يسافر يموت في مكانه، وتنساه الحياة.
كان يتلصص النظرات في ملامح الرجل الذي يقوده، ويحاول أن يسرق السبب الذي دعاه لايقاظه مبكرا هذا الصباح على غير العادة، وحمله معه في هذا الطريق، كل ما يتذكره في اللحظة التالية للطرق العنيف على باب الغرفة، أنه رأى وجه رجل وهو يأمره بحمل حقيبته، ومصاحبته، ولم ينبس ببنت شفة.
هي أيام معدودة مرت عليه، وهو يستيقظ قبل شروق الشمس، يمضي في الطرقات إلى المزرعة الواسعة، يتأمل الأعمال التي عليه أن ينجزها كل يوم، هذه التي تتزايد كلما رأه سيده يأخذ نفسا من العناء، ويستريح تحت ظل شجرة وارفة، ينهره من جلسته تلك، ويأمره بانجاز مهمة أخرى لم تكن ضمن أعمال ذلك اليوم.
لم يكن يظفر بفسحة من الوقت يغسل جسده من التعب، كانت صورة أمه وأخوته وهم ينتظرون الدراهم القليلة التي يرسلها إليهم في آخر كل شهر، بعد أن يكون قد اقتطع ما يكفي لسداد نصيبه من ايجار الغرفة الصغيرة، واليسير الذي يعينه على الوفاء بمتطلباته الحياتية، تراوده كل حين، يجدهما ماثلين أمامه حين يشقى في العمل، وحين يرمي بجسده على الفراش البالي كل ليلة.
لم يخرج عن خط سيره المعتاد، من الغرفة الصغيرة إلى المزرعة الكبيرة، حفظ الطريق وكل ما سكن عليها، يذهب إلى عمله محملا بأماني يوم سعيد، فيعود محملا بالهموم والأوجاع.. يسكن إلى فراشه المتهالك، ويبث شكواه والدمع يترقرق في المآقي.
هي ريالات قليلة يحصل عليها، مقابل العشرات مثلها، لرفاق له، لا يخضعون لسطوة "صاحب مزرعة".. يأمرهم كالعبيد، وهو متكئ يأكل ما زرعته أيديهم، يخرجون إلى العمل متى شاءوا ويعودون إليه متى شاءوا، والريالات الكثيرة لا تتوقف عن مصافحتهم كل يوم..
أخبره أحدهم بالسر، لكنه تخوف منه، فإلى أين المسير في بلاد لا يعرف فيها، إلا رجلا واحدا سيطارده بالسوط، لو علم مجرد تفكيره في الهرب، كان يقاوم الرغبة الدفينة في نفسه، ويطرد فكرة الخروج عن الطاعة، ليكون في وضع أفضل.
هذه البلاد تضيق بواحد مثلي، قالها وهو يفكر كيف أنه لم يسلك الطرق الملتوية التي تقود إلى الثراء، ولم يفكر حتى في طرق أبواب النعيم فيها، وبقي راضخا للقدر الذي قذفه إلى المزرعة يأتمر بما يطلب منه، ويعود في المساء خاوي اليدين، إلا من ضجر وتعب وأنين غربة.
ينظر من نافذة السيارة، فيسبح مع الوقت الذي مر عليه، وهو يستعيد شريط ذكرياته، وبين ذاكرة وأخرى كانت صورة أمه وأخواته تتقافز أمامه، مرة تبتسم له بما تيسر لهن من مال لشراء الغذاء والكساء، ومرة حيارى من أن المال في بعده عنهن لا يساوي شيئا.
حتى حبيبته التي لا تعرف عن حبه شيئا، قاسمها بعضا من تفكيره، وشاطرها الحلم الذي ران إليه، كانت صورتها تشد من عضده، كلما أنهكه التعب، وأضناه البعد.. وليتها تدري بحاله، وعذابات ليله ونهاره.
شعر أن السيارة قد بدأت تعرج نحو جهة يعرفها، وتخفض من سرعتها، حتى تتوقف تماما.. وهو شارد الفكر سارح البصيرة.. ينتظر ما الذي تسفر عنه اللحظات التالية، ولماذا جاء إلى هذا المكان.
يفتح باب السيارة، يمد الرجل يده نحوه، ويأخذه إلى الخارج، ثم يطلب منه حمل حقيبته، بذات النبرة التي طلبها منه أول مرة، ثم يشده من معصمه، وهو يتناول بيده الأخرى بضع أوراق، ووثيقة عرفها من لونها وسماتها، ومن رائحة أمه التي قدمتها له أول مرة، حينما قرر السفر إلى المجهول.
بدأ يدرك أن المجهول الذي جاءه قد لفظه، وأنه عائد إلى المسافة بين السماء والأرض، ينظر من النافذة وجلا إلى المجهول الآخر الذي سيحمله.. لحظتها أفاق من الصدمة، وتبدد الذهول من عينيه، أطلق معها صرخة بكاء صم لها المكان، لكن أحدا لم يسمعه، سالت الدموع من عينيه، جثا على ركبته، ضرب بكفيه الأرض، ثم رفع رأسه وتشبث بملابس الرجل الذي يقوده، قبل قدميه، استنطق الإنسان فيه، استعطفه أن يمهله، ويمنحه فرصة أخرى..
كانت الأبواب تغلق أمامه في تلك اللحظة، والحلم الذي تاق إليه يتبدد، ولم يسمع أحد شكواه، ولا انتبه أي عابر لبكائه، كان خيط الأمل الذي تمسك به يتقطع، ويتلاشى بعد أن يلقي به من علو ساحق إلى هاوية لا قعر لها.
في المسافة الواصلة بين السماء والأرض، وهو يبكي المجهول الذي ينتظره، خطرت في باله فكرة قد تقيه شر القادم، وتجنبه التلاطم بين المجاهيل، وشرع في تنفيذها.

خلفان الزيدي
Twitter: @khalfan74