في فترة متقدمة من حياتي وقع بين يديّ ديوان الشاعرة الراحلة عابرة سبيل، كانت القصائد التي يتضمنها الديوان أكبر من مستوى إدراكي وتخيّلي، كان الشعر متوهجا وباذخا وعميقا، وفي كل مرة أعود فيها لقراءة الديوان اكتشف وكأنني أقرأه لأول مرة:

من يوم ما لوّحت لي كف يمناك
لليوم دمعي بالخفا ما حبسته
ومن يوم ماذوقتني حر فرقاك
والياس زرعه في حياتي غرسته
شريت لي ثوبٍ علشان لقياك
والثوب راحت موضته ما لبسته
وشريت عطرٍ ما زهاني بلياك
أربع سنين بعلبته ما لمسته

القصيدة فضاء الشاعر اللامحدود..
بدون أن تنتقل من بلدها الكويت استطاعت الشاعرة أن تتجاوز الحدود، وبدون فضائيات استطاعت أن تظهر في كل جلسة شعر أو لقاء أحبة، وبدون هواتف ذكية وبرامج تواصل اجتماعي استطاعت أن تحلِّق كذكرى جميلة تستعيدها الأرواح الهائمة؛ إن الشعر الجميل كالغيوم، كالمنخفضات الجوية، كالصواعق والأعاصير، كالزلازل والبراكين، كالحياة والموت:

أبكسر الاغلال واعيش حُرَّه
بصنع قراري وكل شيٍ بيدي
مليت من صبرٍ عطاني مضرَّه
أعيش في عصرٍ لجدّان جدي

وفي قصيدة أخرى تظهر الحالة النفسية والمرارة التي تكابدها الشاعرة:
تعال بشرح لك أنا كل مغلوق
تعال شاهدني مع ذكرياتي
لا لا يغرك لبس موضة ومسحوق
انفض غبار الوقت تلقي صفاتي
قرب وطالع معّن الشوف بحدوق
وزيف التطور جرده من حياتي
بتشوف في وجهي من الماضي اطروق
أخذت من بطن الصحاري صفاتي
طفلة بثوب مخيطينه ومفتوق
تنطر جديد الثوب بالعيد ياتي

غموض يستنطق ما خلف المرآه..
ما يزيد تجربة الشاعرة عابرة سبيل إثارة ودهشة هو الغموض الذي يلتف كالصحراء حول شخصيتها الحقيقية، فبعض الأراء تدعي أنه لا وجود حقيقي لها وأن هناك رجل تقمص هذه الشخصية ليمرر قصائده عبر الصحف والمجلات وليثبت أن الإعلام يجامل المرأة ولو كتبت من خلف أقنعة وأسماء مستعارة وحينما تعملقت الشخصية واشتهر الاسم قام بإيجاد قصة وفاتها المأساوية لينهي الجدل حول شخصيتها ويوقف فضول الساحة الشعبية !!. إن استنتاجات البعض وظنونهم مردود عليها، فمن يقرأ شعر عابرة سبيل ويتفحص ألفاظها ويتعمق في أفكارها ويقترب من مواضيعها الشعرية المختلفة يتأكد بأنها شخصية حقيقية، وأنها شاعرة عظيمة بموهبتها، وذكية بتحايلها على المجتمع القاسي، وهي القائلهة:
أنا عجوز مطلقة وام ورعان
وأيضاً مدام وبنت وآنس وعانس
أنا بدوية وعايشه عند حضران
وبنت البحر وابوي زارع وغارس
أميةٍ ماتعرف حروف وألوان
وتلميذةٍ دشت جميع المدارس
ضفره وخبله، عاقله، في نقصان
شرود وأنطح لي ثمانين فارس
خلوني أعيش العابره دون عنوان
طيف يمر بلا رقابه وحارس

وتقول أيضا بأسلوب ساخر ومأساوي مشيرة إلى أهلها ومبررة اسخدامها للاسم المستعار:

أهلي يدرون إني شاعرة
بس مايدرون في جرح الليال
يمنعوني من كتابة خاطرة
مادروا انِّي من زمان بهالمجال
آه لو يدرون إنِّي ((عابرة))
عندهم بتصير موتتنا.. حلال

القصائد هي مذكرات الشاعر ويومياته:
يؤكد التاريخ دائما أن سيرة حياة المشاهير بحاجة إلى أكثر من سيناريو، ولأنهم مختلفون عن العامة فلابد أن تكون حياتهم أيضا مختلفة، ولو حدث أن كانت حياة أحدهم طبيعية وروتينية فإن التاريخ يعيّن أشخاصا يقومون بدور الراوي الذي يجيد كتابة سيناريو رائع تتناقله الأجيال ويحتفظ بسحر شخصية صاحبه، إلا الشعراء فإنهم يكتبون سيناريو حياتهم بأنفسهم ولا يستطيع أي عابث أن يغيّر شيئا بشرط أن يبقى شعرهم في صورته الأصل وهكذا هو سيناريو الشاعرة الراحلة عابرة سبيل..

قال اسمعي: فرقاك غصبٍ عليِّه
عيَّا الزمن يمشي معانا بالاوفاق
وقّفت لاميته ولانيب حيه
تضاربت بالجوف ضيقه وحرَّاق
وقال : الرسايل وينها؟ قلت : ذيِّه
وللريح عرضت الرسايل والاوراق

إن الشعر الأصيل، الشعر الصادر من واقع الحياة هو الذي كتب سيناريو حياة شاعرتنا الراحلة، فكل نقطة تحول عاشتها الشاعرة وثّقتها ببيت شعري، بجملة شعرية، بقصيدة حقيقية، وهذا هو سر عظمة عابرة سبيل. فنحن لا نحتاج لراويٍ صادق سوى الشعر، ولا نحتاج لمن يجيد كتابة التاريخ بعد عدة سنوات بطريقته الخاصة، فالشعر ينطق بكل شيء، الشعر يصرخ من الألم والمعاناة، ويصمت من الحياء والصبر. إن الراوي الحقيقي لسيرة حياة عابرة سبيل هو شعرها لا أحد آخر، ومن أراد الحقيقية فعليه بشعرها، يستنطقه، ويسأله، ويستوضح منه ما غمض عليه أو ما شكك في صحته.

ضايقه بالحيل محتاجه اشتكي
لولا طبع فيّ.. يمديني شكيت
بس أدور عذر منشان البكي
لو يدوسون بطرف ثوبي بكيت
كل ماجيت اتريّح وارتكي
يزدحم في خاطري الفين بيت
ويش بيدي افعله غير الحكي؟
قاصره خطوات رجلي لو مشيت
اسرعي يانفس موتي واهلكي
صرتي همي يوم بالدنيا شكيت

الصراع مع المرض وتقبّل المصير:
لقد أبت الأقدار إلا أن تنقل خطوات شاعرتنا بثقة نحو النهاية السريعة، كما أبى شعرها الخالص إلا أن يسجل كل خطوة بمنتهى الدقة، فبصيرة الشاعرة تنبأت بالقادم الموحش، ولعل الوصية التي كتبتها شاعرتنا هي الخطوة الأخيرة في رحلة الحياة القصيرة وهي الخطوة الأولى في رحلة الموت والخلود الأبدي.. ومن يقرأ شعر عابرة سبيل بتمعن وتمهل سيتعرف عن قرب على سيرة حياة شاعرتنا بكل تفاصيلها البسيطة، بكل مرارتها، وسيفهم كيف يستطيع الشعر الأصيل أن يغيّر من دوران الأرض بكلمة واحدة فقط، كيف لا والشاعر هو الأكثر صراحة وجرأة، والأكثر ندما وقلقا، والأكثر صمتا وشرودا من كل الناس، وهو الأكثر مأساةً وخوفا، ولكن ليس إي شاعر بل قلة فقط ومنهم عابرة سبيل، لنقرأ القصيدة القادمة والتي تحدث فيها الشاعره زوجها في لحظات الاحتظار وتوصيه بطريقة غسلها بعد الموت وتكفينها، كما توصيه باولادها..

ترى الذبايح واهلها ماتسليني
انا ادري ان المرض لا يمكن علاجه
ادري تبي راحتي لا يابعد عيني
حرام ماقصرت ايديك في حاجه
اخذ وصاتي وامانه لا تبكيني
لوكان لك خاطرن ماودي ازعاجه
ابيك في ايدينك تشهدني وتسقيني
وداعتك لايجي جسمي بثلاجه
لف الكفن في ايديك وصف رجلين
ماغيرك احدن كشف حسناه وحراجه
ابيك بالخير تذكرني وتطريني
يجيرني خالقي من نار وهاجه
سامح على اللي جرى مابينك وبيني
ايام امشي عدل وايام منعاجه
اعيالي همي وانا اللي فيّ يكفيني
علمهم الدين تفسيره ومنهاجه

هكذا كانت (عابرة سبيل) متوحدة مع قصيدتها، لم تشطح بخيالها سوى للتنبؤ بالنهاية المفجعة، ولم تعبث بلغتها سوى لبلع مارد الصمت العالق في حنجرتها، ولم تستسلم للموت قبل أن تكتب آخر ورقة من مذكراتها الخاصة..يا إلهي ما أقسى الحياة، ما أجمل الشعر..

باجر يجي يا شيب عيني من الويل
من عقب ما سافر سنينٍ مديه
شا أقول له صاروا عيالي رجاجيل
شا أقول له ماني بعهده وفيه
إن قلت له إني تعذبت بالحيل
وإن قلت له أكبر عيالي سَمِيِّه

الأبيات المنشورة جميعها من ديوان الشاعرة عابرة سبيل..

حمد الخروصي
twitter@ hamed_alkharusi