ألفاظ فصيحة يُظنّ أنها عاميّة

يتداول الناس في أحاديثهم ألفاظاً كثيرة لا نتريّث في الوقوف عندها، بل والحكم عليها من قِبلِ بعض المتعلّمين أنها من العاميّ الذي لا أصل له في فصيح الكلام، إلا أنه بقليل من البحث والتنقيب وسبر أغوار كتب اللغة يتّضح لنا أن لمثل تلك الألفاظ جذوراً أصيلة في تراثنا اللغوي، فَلِمَ نضرب عنها صفحاً ونحكم عليها بالموت وهي حيّة آخذة مكانها في الاستخدام اللغوي؟!!!!!.
من مثل ذلك الكلمة التي تشير إلى نفاد الشيء وفنائه، وهي تقال للأطفال خاصّة، وهي لفظة (بَحْ)، فإذا أُعطي الطفل شيئاً ثم رغب في الزيادة يقولون له: بَحْ، لإعلامه بنفاد ما يطلبه. وأصل هذا في اللغة العربية (بَحْبَاح)، ففي لسان العرب: (زعم الكسائيّ أنه سمع رجلاً من بني عامر يقول: إذا قيل لنا بقي عندكم شيء؟ قلنا: بحْبَاح، أي لم يبق شيء). وفي القاموس المحيط بَحْبَاحِ مبنيّةٌ على الكسر: كلمة تنبئ عن نفاد الشيء وفنائه. وقريب من ذلك قولنا في كلامنا اليومي: بَحْبَحَ فلانٌ يدَهُ، إذا توسّع في الإنفاق، وبَحْبَحَ ثوبَهُ: وسّعه، فهو مُبَحْبِح. وقد نقل الزَّبيديّ في تاج العروس عن الفراء (والبَحْبَحيّ: الواسع في النفقة وفي المنزل).
ومن ذلك أيضاً أن تسمع قائلاً يقول على رجل قليل العقل: هذا واحد أهتر، استخفافاً بما يقوله، فتظن أن الكلمة عاميّة، مع أنك قد تقبل بلفظة (المهاترة) و(المهاترات الكلامية) على أن ذلك من الفصيح، والمادة اللغوية واحدة كما ترى، وهي تدلّ في أصلها الفصيح على الحمق والجهل. والمُستَهتَر (بفتح التاءين) الكثير الأباطيل، فقد ورد في تهذيب اللغة للأزهري (واستُهتِرَ فلانٌ فهو مستَهتَر:إذا ذهب عقله وأكثر القول بالباطل). وفي معجم الصحاح (فلان مستَهتَر بالشراب أي مولع به لا يبالي ما قيل فيه).
وإذا اسْتُنْكِر تصرّف جماعة، أو بدا غير لائق اجتماعياً قيل عليهم: جماعة هَمَجٌ، فيظن السامع أن الهَمَج ليست من الفصيح في شيء، ولكنها في الحق فصيحة أصيلة في العربية، فهي جمع (هَمَجَة)، ففي معجم أساس البلاغة للزمخشري (أذلّ من الهَمَج وهو ضرب من البعوض. وقيل: الذباب الصغير الذي يقع على وجوه الحمير وأعينها.... ومن المجاز: ما هُمّ إلا هَمَجٌ ورَعاع). والرَّعاع ـ بفتح الرّاء لا بضمّها كما يلفظها معظم الناس ـ هم: الأحداث الطَّغام أي أوغاد الناس. وشبيه بهم (الأوباش)، وهذه من الفصيح أيضاً، وإن ظنّها قلّة من القرّاء عاميّة، فالأوباش من (الوَبَش) بالفتح والتحريك حيث جاء في تاج العروس (واحد الأوباش من الناس، وهم الأخلاط والسَّفلة)، وهو في أصله بمعنى البياض الذي يكون على الأظافر. وهذه تذكّر بمعنى آخر قريب في دلالته منها، وأعني البوش أي الجماعة من الناس المختلطين. والكلمة تُطلق في مجتمعاتنا على جمع الإبل اتّساعاً في المعنى.
وقد نقف كثيراً عندما نسمع لفظة (عيّار) ويأتي الحكم المطلق بعاميّتها، إلا أنه وبقليل من التروّ تتّضح لنا فصاحتها، ففي تاج العروس للزبيدي (عارَتِ القصيدة: سارت، فهي عائرة، والاسم العِيارة)، وفي أساس البلاغة (وما قالت العرب بيتٌ أَعْيَرَ منه). غير أن لفظة (عيّار) في مجتمعاتنا ترمي إلى الكذّاب السريع التخلّص من الأمور المحدقة به، ونجد لهذا الاستعمال ما يبرّره عند العرب حيث إنهم استخدموا لفظة (عيّار) في المدح والذّم، فقولهم: غلام عيّار أي نشيط في المعاصي، وكما أنها تعني النشيط في طاعة الله عزّ وجلّ، وكأنها من الأضداد عندهم. بل قد سمّوا الأسد عيَّاراً وذلك لتردّده و مجيئه وذهابه في طلب الصّيد ومن ذلك قول أوس بن حجر:
لَـيـْثٌ عَـلَـيْـهِ مِـنَ البَـرْدِيِّ هِـبْرِيَـةٌ
كَـالمَـرْزَبِـرانـي عَـيَّـارٌ بِـأوْصَـالِ
ومن ذلك أيضاً لفظة (شحّاذ)، فهي تُلفظ في الكثير من مجتمعاتنا بالتاء وتطلق على المتسوِّل. وقد وجدت أنها لفظة عربية فصيحة بالذال والثاء لا بالتاء، ففي أساس البلاغة للزمخشري (رجلٌ شحّاثٌ شحّاذ: وهو المُلِحّ في مسألته). لقد أوردها الزمخشري بالثاء والذال إلا أن الزَّبيدي علّل ذلك التغيير بالإبدال بين الحرفين ونصّ على أنه من سَنّن العربية قائلاً : إن الذّال تُبدل ثاء بلا غلط فيه ولا لحن.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]