تعرضنا في دراسة سابقة إلى الخلاف بين الفقهاء حول حلة أو حرمة القهوة ، وكيف أن هذا الخلاف استمر لفترة ليست بالقصيرة بل تعمق كثيرا ليخرج إلينا بإنتاج فقهي .. أدبي من خلال الفتاوى والأشعار والمؤلفات التي واكبت ظهور القهوة خلال القرن العاشر الهجري .. السادس عشر الميلادي ، ورغم الظروف الصعبة التي صاحبت ظهور القهوة كشراب عند العرب ، ظل محبوها وعشاقها يكافحون من أجلها وفي نهاية المطاف انتصرت القهوة حتى أنها انتشرت في كل البلاد العربية ومنها انتقلت إلى البلاد الغربية ، وسنواصل في هذا البحث التعرف على القهوة كعنصر من عناصر التراث الثقافي غير المادي ، وذلك بعد أن استقرت في وجدان الإنسان العربي بحيث لم يعد بالإمكان تصور المجتمع العربي بدون القهوة ، وارتبطت بها عادات وتقاليد اجتماعية وتكونت ثقافة شعبية اختزلها الإنسان العربي على مر الزمان ، وسنتعرف على هذه الآداب الاجتماعية التي نسقتها الجماعات والمجموعات العربية ووضعتها بتصرف الأفراد .

الآداب الاجتماعية في تقديم وشرب القهوة

يخضع تضييف القهوة لتقاليد دقيقة أشبه ما تكون بالقوانين ، تحكم المضيف والضيوف معا، ولا يجوز الإخلال بها ، ولهذا تراعى فيها كل المعايير والنظم والتقاليد التي يحرص العرب ، على ترسيخها في نفوس أبنائهم وذلك من خلال مجالسهم التي تكون القهوة رائدتها ويمكن إجمالها بما يلي :

1- مسكة الفنجان : يحمل المضيف "الدلة" بيده اليسرى وربما يحمل فناجنين أو ثلاثة بيده اليمنى وأحيانا أكثر، ولا يقدمها باليسرى، وفي بعض المجتمعات العربية خاصة البدوية منها يقوم المقهوي أو المضيف بصب الفنجان الأول لنفسه قبل غيره ، والغرض من ذلك هو معرفة جودة القهوة، والتدليل على حسن النية، وقد يكون الغرض منه طمأنة الضيوف بأن القهوة لا تحوي مادة ضارة .
2- الوقفة عند تقديم القهوة : من واجب المقهوي أن ينحني ليصبح الفنجان أدنى من صدر الضيف وفي متناول يده، وعند صب القهوة في الفنجان ينزل خيطا رفيعا من القهوة مع رفع الدلة عن الفنجان دون قطع الخيط، والغاية من هذه الحركة إمتاع الضيف بمنظر انسكاب القهوة قبل شربها. وعندنا في عُمان يقوم أصغر الجماعة الحاضرة بمهمة تقديم القهوة للحاضرين.
3- كمية القهوة في الفنجان : يجب أن تكون كمية القهوة المقدمة في الفنجان لا تتجاوز رشفة صغيرة تغطي قاع الفنجان بارتفاع (1 سم) تقريبا، يشربون منها رشفات تستمر لبضع مرات متتالية ، وهذه الكمية بالكاد تبل الشفتين واللسان دليلا على أن القهوة ( للكيف ) وليست شراب غذاء ، والبدو لذلك يقولون : "الكيف على روس الشفايف" ، أما القرويون فتكون كمية القهوة في فناجينهم أكثر قليلاً ، وأصحاب الكيف يميزون بين الكميتين جيداً ، فيقولون لمن يزيد : " صبتك فلاحية " ولمن يقلل : " صبتك بدوية " ( 1 ) وسوف نتطرق إلى عدد الفناجين التي يجب أن تقدم للضيف في سياق هذا البحث .
4- واجبات الضيف : من واجب الضيف أن يتناول الفنجان باليد اليمنى والتصرف بغير ذلك معاكس لآداب الضيافة العربية ، فلا يجوز مقابلة اليمين باليسار، لأن ذلك احتقار للمضيف وازدراء له، كما أنه لا يجوز أن يتناول الفنجان وهو متكئ، بل عليه أن يستند وأن يكون جالسا باحترام وقد عبر أحد الشعراء عن ذلك بقوله:

اللي يريد الكيف يرخي يساره
ويقعد على حيله ويأخذ بيمناه

وبعد أن يرتشف الضيف فنجانا أو عدة فناجين من القهوة عليه أن يناول الفنجان للمقهوي يدا بيد بعد أن يحركه عدة مرات بيده اليمنى الممدودة إلى صباب القهوة ليشعره بأنه اكتفى من شرب القهوة فيتوقف حينئذ المقهوي عن صب القهوة لهذا الرجل . وفي عُمان يقوم المضيف أو المقهوي " بمعازمة "الضيف أي : أن يستحثه على طلب المزيد من شرب القهوة وهذا مما يدل على كرم الضيافة العُمانية .
5- المقصد من عملية هز الفنجان : وفي هذا الموضوع يوضح لنا الاستاذ الباحث محمد مفلح البكر أن أصل عملية هز الفنجان تدخل في موضوع لغة الإشارة عند العرب التي تتكون من حركات تعبيرية لكل منها معناه الخاص ، وقد تصدر هذه الحركات عن الوجه أو العينيين أو اليدين، وتتكون هذه العملية من حركتين:
(أ‌) الحركة الأولى: دفع راحة اليد التي تحمل الفنجان باتجاه خارج الجسم قليلا.
(ب‌) الحركة الثانية: رفع راحة اليد المذكورة إلى أعلى والتوقف لحظات مع هز الفنجان.
وهذا يعني في أن الحركة الأولى تعني طلب الابتعاد بالقهوة، أما الحركة الثانية فتعني طلب التوقف عن صب القهوة ، أي الاكتفاء من شرب القهوة عند هذا الحد ، أي حد هز الفنجان سواء كان الشخص قد تناول فنجانا أو أكثر ( 2 )
6- الأولوية في تقديم القهوة: هناك العديد من الآراء حول من لهم الأحقية في الحصول على الفنجان الأول من هذه الآراء ما يلي :

(أ‌) تبدأ من اليمين: من آداب تقديم القهوة المشهورة عن العرب هي أن تدار من اليمين إلى اليسار، وهم يقولون :"إعط اللي على يمينك لو كان أبو زيد على يسارك" ويعنى ذلك أن الأصل في تقديم القهوة أن يناول القهوجي الفنجان الأول إلى أول شخص على يمينة، ثم يستمر باتجاه اليسار حتى لو كان أبو زيد – وهو فارس مشهور من بني هلال - على يساره. وكما يقولون :" الأكل نص والقهوة قص" فلا يجوز أن يخصص أحد الموجودين دون غيره ، تلك القاعدة الشائعة في أغلب المجتمعات العربية ، -وهذا هو المطبق فعلا عندنا في عُمان- ، إذا كان الحضور من الأقارب والجيران وأبناء القبيلة الواحدة، بغض النظر عن الفوارق في العمر، والمركز، والدرجة العلمية ، وهي قاعدة عادلة وديمقراطية متعارف عليها عند العرب. وكانت مطبقه قبل الاسلام فقد ورد في معلقات عمرو بن كلثوم قوله :

صدرت الكأس عنا أم عمرو
وكان الكأس مجراها اليمينا (3)

(ب‌) صاحب الرأي: القهوة في نظر أصحاب هذا الرأي ذات مكانة عالية لا يجوز تقديم الفنجان الأول لرجل ما لمجرد قعوده في يمين المجلس ، حيث يجب أن يكون الفنجان الأول من نصيب صاحب الرأي، وهو الشخص الذي يمتاز برجحان عقله وقوة حكمته، وسداد رأيه، ولا شك أن هذا التقليد يعكس أهمية الرأي عند القبائل العربية ، واحترامهم للحكمة والعقل وتدبير الأمور .
(ت‌) الضيف: إما إذا أعدت القهوة على شرف ضيف قادم من منطقة بعيده ، أو إذا دخل أثناء إعدادها فإن الدور يبدأ به أينما كان مجلسه، ويستمر بمن يجلس عن يمينه حتى ينتهي بمن يجلس عن يساره.
(ث‌) كبير السن: إذا كان عدد الضيوف أكثر من واحد فإن الدور يبدأ بأكبرهم سنا، ثم الذي يليه ، وإذا التبس الأمر على ساقي القهوة، فعليه أن يحرك الفناجين بين يديه مصدرا صوتا، إشعارا للضيوف أنه عاجز عن معرفة كبير السن، وفي هذه الحالة ، على الضيوف أن يبينوا له ذلك ، ويشيرون عليه بصب القهوة للذي يسمونه من بينهم. ( 4 )
وفي هذا السياق يلفت انتباهنا الباحث الأستاذ سليمان أحمد عبيدان إلى أن من الأخطاء الفادحة عند العرب أن يتجاوز ساقي القهوة أي شخص عند تقديم القهوة، ويعتبر ذلك أكبر إهانة واحتقارا له ، وإما يكون قد هرب من معركة أو اقترف جرما أخلاقيا، أو قام بعمل مشين لا يؤهله لأن يجلس بين الرجال ويشاركهم شرب القهوة ( 5 )

وقد حددت لنا الأبيات التالية من هم أصحاب الحق وذوي الأولوية في الفنجان الأول :

عدي وصبه للي تدفق السمن يمناه
طول الزمان وما رده ما يضوح
ثني وصبه للي تكره الخيل ملقاه
يرخص بروحه عند راعي اللدوح
ثلث وصبه للي يزعج النزل طرياه
يضوي ليا صكت عليه النبوح
باقي الرجال فحول نسوان ورعاة
حراس مال ويتبعون السروح

ومن خلال هذه الأبيات يكون الفنجان الأول من حق الرجل الكريم الجواد الذي يصب السمن على المناسف ليشبع الجياع ، وأما الفنجان الثاني فقد حددته الأبيات ليكون من حق الفارس الشجاع الذي يشكل درعاً لحماية قبيلته ، وأما الفنجان الثالث فالأولى أن يكون من نصيب رجل الليل الذي يلقبونه (بدواس الظلما) الذي يمضى إلى غايته غير هياب وفي مختلف الظروف الجوية ، ولا يعود حتى يحقق الهدف الذي هب من أجل تحقيقه ( 6 )

عدد الفناجين:

لقد حدد بعض المجتمعات العربية – خاصة في مجتمع البادية - عدد الفناجين التي يجب أن تقدم الى الضيف بثلاثة فناجين ويفصلونها على النحو التالي:

( أ ) الفنجان الأول : وهو الفنجان الذي يأتي بعد فنجان الهيف ويسمى فنجان الضيف وهو فنجان الترحيب بالقادم سواء كان معروفا أو غير معروف، وشرب هذا الفنجان لا بد منه إلا لعلة مرضية واضحة، ويمكن للضيف أن يرفض الفنجان الثاني ، أما رفض الفنجان الأول فلا يجوز ويحسب إهانة كبيرة بحق المضيف وإنذارا بشر .( 7 )
والضيف والمضيف لا يأخذ كلاهما حريته بالحديث إلا بعد أن يشرب الضيف الفنجان الأول، فإذا تم ذلك أصبح كل منهما أمينا من الآخر.
( ب ) الفنجان الثاني : يسمى فنجان الكيف ويوصف من يشربه أنه صاحب كيف ، وهو على استعداد لمسامرة مضيفه ومؤانسته وتبديد وحشته.( 8 )
( ج ) الفنجان الثالث: يسمى فنجان السيف ويفترض بمن يشربه أن يكون عونا للمضيف في حالة الشدة وأيام الحرب ، وهو على استعداد لمشاركة مضيفه في رد أي عدوان يقع عليهم. وفي هذا الموضوع أورد الاستاذ الباحث ياسين صويلح قصه حدثت في التاريخ العربي حيث ذكر : " أن أحد شيوخ البدو اتجه مع رجاله إلى مكان آخر بقصد التجارة، وعند حلول الليل حطوا رحالهم يستريحون ، فرأى الشيخ ضوءاً فترك رجاله وقصده لاعتقاده أن الضوء صادر من قرية ، لكنه فوجئ بخيمة لأحد المماليك ، فأصر المملوك على استضافته ، فشرب الشيخ البدوي فنجاني قهوة ، وأعتذر عن الثالث بإصرار ، وحين استفسر المملوك عن سبب إصراره ورفضه الفنجان الثالث ، أجاب البدوي بأنه جاء تاجراً وليس محارباً ( 9 )
وفي ترتيب فناجين القهوة يقول احد الرجال :" لذة القهوة شرب ثلاثة فناجين : "الفنجان الأول لرأسي" أي يزيل النعاس من رأسي ويجعله يقظا متحفزا، " والفنجان الثاني لبأسي " ويزيدني بأسا وشجاعة ، "والفنجان الثالث يطير عماسي" والعماس هو الصداع واللبس واختلال الأمور، أي أن الفنجان الثالث يصفي عقلي ، ويطرد منه الصداع والاختلال فيصبح ذهني نشيطا وعقلي متوقدا. ( 10 )

القهوة أداة تعبير:

لقد أصبحت القهوة عند العرب مع مرور الزمن أدات للتعبير عن مشاعرهم في مناسبات عديدة منها:

1- التعبير عن كرم صاحب البيت
2- التعبير عن الدعوة لتناول الطعام .
3- التعبير عن إجابة الطلب بطريق السماح .
4- التعبير عن الحزن أو الفرح .

الهوامش والمراجع :

1- نينا جميل ، الطعام في الثقافة العربية ، بيروت ، دار رياض الريس للنشر ، 1994، ص162.
2- محمد مفلح البكر ، تضييف القهوة العربية، مجلة بناة الأجيال، العدد 7 يوليو 1993م، ص 152.
3- أحمد عويدي العبادي، المناسبات عند العشائر الأردنية عمان، دار البشير، 1994، ص 217.
4- ياسين صويلح ، مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71ابريل ،2004ص 16
5- سليمان أحمد عبيدات، عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، عمان الأهلية للنشر والتوزيع، 1994، ص 264.
6- محمود مفلح البكر ، مصدر سابق ، ص154
7- سليمان أحمد عبيدات ،مصدر سابق ،ص 265
8 - ياسين صويلح ، مصدر سابق ،ص 16
9- ياسين صويلح ، مصدر سابق ،15
10- محمود مفلح البكر ، مصدر سابق ،ص 157

فهد بن محمود الرحبي