على هامش خبر شراء الكنيسة لجامع قرطبة "بثلاثين يورو"!!

ثمة خبر تداولته الصحافة العالمية بتاريخ 20 فبراير 2014، مفاده شراء الكنيسة لجامع قرطبة الشهير "بثلاثين يورو" متواضعة فقط! هذا الخبر الذي أثار الكثيرين من الأكاديميين والباحثين في التاريخ والتراث والنشطاء المدافعين عن أفكار الهوية والثقافة، يستتبعه تدافع العشرات من الأفكار والمداخلات والملاحظات على أكثر من مستوى فكري وسياسي وثقافي وعمراني وديني أيديولوجي وتاريخي وسواها. والمهم أنه لا يمكن فصل هذه المستويات عن بعضها؛ فلا يمكن فصل السياسي عن الثقافي ولا العمراني عن الأيديولوجي ومسائل الهوية والتعددية الإثنية والخلفية الحضارية.
مسألة "انتقال" ملكية التراث، على تنوع أشكاله وعناصره، المادي منه الملموس وغير الملموس، فضلا عن العادات والسلوكيات وكمظهر من مظاهر التعبير الثقافي أو الاجتماعي أو العمراني أو الديني، هي مسألة تاريخية متواترة وليست بجديدة مطلقا. فقد انتقلت ملكيات الكثير من المقتنيات الأثرية، عبر وسائل متعددة، تتراوح بين السرقة والتزوير والتهريب والاحتيال والقرصنة الثقافية والاستيلاء عبر الإحتلال العسكري والاستعمار، وآخرها شراء المقتنيات بصور "شرعية"، خلسة، أو بالمزاد. ومن هنا تتدافع الكثير من الأسئلة ويتعاظم الجدل حول "شرعية" المقتنيات الأثرية والتراثية في متاحف في "غير موطنها" أو بلد منشأها، وهي مسألة فكرية ثقافية تطفو على السطح بين فترة وأخرى، تؤطرها تأزمات دبلوماسية، وتتمظهر كتوترات سياسية قد تشتد أحيانا وتخبو أحيانا أخرى، اعتمادا على قوة الحضارة "السالبة" وهيمنتها الثقافية، والأهم العسكرية، مقابل ضعف الحضارة "المسلوب منها" وترهل سياساتها الخارجية، وخاصة عندما يعلو هرمها السياسي من يكون جلّ همومهم شخصية ذاتية، في سياحة واستجمام حول جزر العالم النائية واليخوت الفاخرة أو على أطراف طاولات القمار تبذيرا للمال العام في دكتاتوريات واضحة أو مقنّعة، آخرها الإلتفات لتراث أو هوية أو فكر أو ثقافة.
في مثل هذا الجدل، النخبوي والشعبوي دون الحكوماتي أو مستوى صانع القرار "الغائب" أو العاجز، أو كليهما، (والتساؤلات هنا مطروحة بشدة عن دور المنظمات العربية الإسلامية إزاء مسألة مهمة وعاجلة بهذا الحجم!) تترواح الأطروحات بين الدعوة لاستعادة هذا التراث المسلوب، بصرف النظر عن التقادم الزمني أو أية اعتبارات أخرى سوى اعتبار مسألة الهوية. وبالمقابل وعلى النقيض، وللمفارقة، تطفو أطروحات هازئة من قبيل أن "الثقافة السارقة أو السالبة" ستعتني بالتراث أكثر من نظيرتها في موطن العنصر التراثي الأصلي. وبين هذه وتلك تتعدد وتتنوع مستويات الطروحات بين الثقافي والديني والسياسي وبين الأيديولوجي المتشنج أو المتسامح. ولنا هنا وقفة على أكثر من مستوى.
على المستوى التاريخي، من المهم استرجاع وتذكر أن مسائل "انتقال" ملكية، بل ووظيفة التراث العمراني لها شواهد وأمثلة، حيث تم تحوير وتحويل الكثير من الكنائس إلى مساجد، بل وشمل ذلك بعض المعابد القديمة، بعد اندثار أمة أو حضارة أو غلبة سياسية لأخرى. المسجد الأموي مثالا، فضلا عن تحويل بعض أبراج الكنائس في الأندلس إلى مآذن كمأذنة الجيرالدا الشهيرة. وفي بعض الحالات الأخرى كان يتم إعادة استخدام حجارة مباني متهدمة لثقافة معينة في إنشاء مباني لثقافات لاحقة مسيطرة. ولذلك فإن كانت مسألة انتقال "الملكية" ذاتها تثير هذا القدر من الجدل، في عالم عربي وإسلامي يغرق في سبات عميق وفوضى سياسية وفكرية وثقافية وهوياتية، فإن التاريخ قد شهد "تحويل" عناصر وتغيير وظيفتها. لكن موقفنا في هذه السطور يجب أن يكون واضحا جدا من المسألتين، ودونما الإنحياز أو "شبهة التحيز" لمداخلة على أخرى، أن الإنتقال التاريخي للملكية وتحوير الوظيفة له دلالات وشواهد - وحري بالمداخلة أن تبدأ من هذا المستوى عميق الجذور.
لكن ذلك يفتح الباب من باب إشكالية الهوية، على مسائل أخرى أكثر تعقيدا وأهمية من صراع أيديولوجي، متسامحا كان أم متعصبا، على تبعات هذه "السيطرة"، وانعكاسات هذه الهيمنة على الثقافة الأصلية، تشويها وتحويرا ومسحا تاريخيا-مستقبليا. فالتراث العمراني، من حيث النشأة، أو المنشأ، والتكوين، هو نتاج تراكمي لإفراز ثقافي واجتماعي وجيوسياسي وتاريخي يصوغ طبقاته ويؤثر في شفرته الوراثية كل هذه العوامل مجتمعة بما يعطيه صبغة وهوية يكون من المغالطة والخطأ محاولة العبث في هذه الشفرة التكوينية وتغييرها، سواء من أصحاب هذه الهوية في مرحلة زمنية ووقتية متأخرة، أو من أيديولوجيا مختلفة تمثل تغيرات زمانية ووقتية وظرفية ومذهبية في آن واحد. فالتراث العمراني بمفهوم نشأته وظروف تكوينه يلتصق ويتبلور ويشكل ظرفية ومكانية وزمانية الهوية الثقافية، وأي محاولة للتدخل اللاحق في هذا المحتوى الهوياتي يعني العبث في تكوينه الجيني والتأثير على تاريخيته وظروف إنتاجه، وهذا يشمل بالضرورة، التواصل الزمني والتواتر الحضاري والثقافي الذي يصوغ حركية الهوية في مكوناته من جهة، أو الوصاية والمحافظة على مثل هذا التراث بما يمكن أن يحرف هذه الحركية التاريخية ويهدد تأريخية وظروف إنتاجها، ويعني بالتالي إمكانية تغيير وظيفية أو تشكيلية أو مظهرية شكلية جزئية كانت أم كلية.
وكل هذا يعيد فتح النقاش التي يبحث في "إنسانية" التراث، من المفهوم العالمي العام، والذي يمكن ان تشترك فيه الثقافات جميعا، وبما يعطي الخيط القاسم المشترك بين التراث العالمي وبما يمكن ان تتقاسمه الأيديولوجيات المختلفة، وبين التراث ذي الخصوصية المكانية والظرفية والزمانية الذي يتجلى كأحد أهم تمظهرات الأيديولوجيا والثقافة والحضارة بما تمليه خصوصية الإقليم وجغرافية المنشأ، فضلا عن خصائص جينية أخرى ذات طابع ثقافي اجتماعي وحتى سياسي. أما التراث من النوع الأول، فتبدو محدوديته حين تتغول عوامل الإقليم وخصوصية الجغرافيا ومكونات التكوين والمنشأ بما يحيله فورا إلى التراث من النوع الثاني. وهنا تحديدا تتكلس طبقات متراكمة من الخصوصية التي يعني كسرها تشويها لهذا التراث وعبثية محاولة نقله من الحالة الثانية إلى الأولى. وهنا يمكن القول ببساطة أن نسبة التراث لهذه الأيديولوجيا او تلك هي نسبة بدهية، تتجرد بداهة من تحيزات الثقافة أو تشنجات التعصب لهذه الأيديولوجيا أو تلك، بل هي نسبة، أو نسب شرعي، لولادة تراث ذي مسمى وخصوصية تحدد بلد المنشأ وتاريخه وخصائصه وطبيعته بما يعتبر التدخل فيه "تحريفا" للتاريخ وتزويرا له، ونسبة غير شرعية، أو وصاية غير طبيعية، لتراث تاريخي اكتسب ظروفه بشرعية لا يمكن السماح بالتعدي عليها. وهذا يشمل كل الثقافات والأيديولوجيات والديانات، وغير الديانات التي تفرز على الدوام مظاهر تعبر عن خصوصياتها. ومن هنا فلا يجوز ولا يمكن أن يتم التعدي على تراث بوذي, مثلا، أو الوصاية عليه من ثقافة ذات ديانة سماوية مثلا. هذا تعدي ثقافي، او سياسي، أو فكري، أو مذهبي، لا يجب قبوله أو السماح به تحت أي ظرف أو مبرر.
وفي هذا الإطار فإن ما يجري من قرصنة للتراث في مناطق النزاع العسكري المسلح، أو مناطق التوتر الطائفي أو العرقي أو المذهبي هي جرائم مستمرة ترتكب بحق تاريخ وظروف إنتاج مفرزات حضارية وثقافية تعمل على الدوام على التدخل في صناعة تاريخ وتشويه وتداخل غير طبيعي بين الثقافات أو العوامل اللاعبة التي اكتسبت تميزا عن بعضها افتراضا وابتداء بما يجعلها "أغيارا" لا يمكن التوفيق بينها.
وفي إطار عدم القدرة، نظريا وعمليا، أحدهما أو كلاهما معا، على توفير مظلة أو هيئة "إنسانية" تعنى بالتراث وتقدمه كمنتج عالمي مندمج ومتجانس، فإن هذا يعني بالضرورة والمنطق أن التراث، أو التراثات الإنسانية، ينبغي ويجب أن تظل مصنفة، ومعتنى بها، ومصانة، ومحفوظة، ومتوارثة ضمن أطر الزمان والمكان والظروف التي أفرزتها – دون النظر إلى أي اعتبارات مرحلية أو وقتية قد تطرأ على متعلقات الحفاظ عليها أو الوصاية عليها. وبكلمات أخرى، فالتراث الإسلامي يجب أن يبقى كذلك، ماضيا وحاضرا ومستقبلا ويعتنى بنسبته والصفة التي اكتسبها شرعيا وتاريخيا. فهو إسلامي بالصفة، والظروف والمحددات الإقليمية والظرفية والسياسية، فضلا عن الاجتماعية الثقافية الجيوسياسية التي انتجته في مرحلة ما. وحتى لو انقطعت هذه الظروف المنتجة، لانقطاع تاريخي في ذات الحضارة، فهذا يحيله إلى تصنيفات التاريخ الإسلامي، دون التراث الحركي المستمر، لكنه مع ذلك يظل مولودا شرعيا لظرف ومكان وزمان، ولا يمكن بحال أن يلتصق بنسب جديد، سواء "بالتهويد"، أو القرصنة الثقافية، أو السرقة الزمكانية الظرفية الإنتهازية، في حالات السلم، أو التوتر، أو النزاع.
وفي إطار موضوعنا الأساسي لمسجد قرطبة، تتقزم الكلمات أمام وصف هذا المعلم التاريخي المهم على عدة مستويات أولها وأبسطها عمرانية لتترفع جميعا عن مجرد الإشارة لهذه الدريهمات البخسة التي شري بها. التراث، لا قيمة له تقدر بمكان أو زمان، رغم أنه يتم أحيانا وضع قيمة مادية لأي تراث، إلا أنها تظل في دائرة الرمزية والمعنوية، لكنه يظل دوما وفي كل الأوقات لا زمني، يعكس روح الإبداع ويقدم أحد مظاهر العبقرية الإنسانية في تخطي حدود الوقت والظرف والمكان والزمان. ولذلك فمسألة وضع الضوابط على دائرة تغييره أو تحريفه، تظل مسؤولية مستمرة للضمير الإنساني أولا، قبل اعتبار أن هذا التراث ذا صبغة أو هوية أيديولوجية لهذه الثقافة، أو هذا العرق أو ذاك!.

د. وليد أحمد السيد