أسئلة ابتدائية
السؤال الذي يتبادر للذهن كلما ذكرت مجموعة شجرة النار للشاعر خميس قلم هو: ما هي الميزة التي تمير هذه المجموعة الشعرية لتحظى بالحفاوة، منذ فوزها بجائزة أفضل إصدار شعري لعام 2011م وإلى هذا اليوم الذي تستمر فيه الحفاوة بهذه المجموعة. هل كل هذا بسبب عالم العلاقات العامة مثلاً كما هو ديدن مجتمعنا الثقافي؟ أم لأن هذه المجموعة لديها جاذبية خاصة؟
لا يمكن معرفة السبب دون قراءة المجموعة لاستطلاع السر الذي تخفيه شجرة النار، هل شجرة النار هذه تشتعل حقاً وتُشعل من يمسها.. هل هذا النص الشعري استوقد من خشب عالي الجودة للوقود؟ شجرة النار هذه من أي نوع من الخشب، هل هو من خشب الغضا الموصوف بالاتقاد، أم من السَّمُر..
هذه هي الأسئلة هي التي أغوتني لأتقدم مما بدا لي فرصة متاحة اليوم، كانت لدي تساؤلات ولم أكن قد قرأت المجموعة لأعرف، وقد حان الوقت فيما يبدو كي أتقدم داخل هذه النص لأحصل على أجوبة..
هل هناك شيء ما يشتعل داخل هذه المجموعة، هل تشم رائحة دخان؟!
وكان يمكن لهذا الاقتراب أن يكون وصفياً، أن أكتفي مثلاً بما قاله عضوا لجنة التحكيم الشاعر زاهر الغافري والشاعر اسحاق الخنجري اللذان قررا فوز شجرة النار: حيث جاء في بيان اللجنة أن فوز المجموعة يعود إلى الاشتغال المتنامي من بؤرة واحدة متصاعدة لعوالم متسقة، وتنوع ايقاع النصوص وصراع الذات، وركزا على التناغم الصوتي والتراوح الموسيقي، واندماج الصورة بين الواقعي والرؤيوي، والبعد الدلالي للنصوص والجذر الدرامي، يواجه الموت ويعري الحب ويشاغب الغياب، مرايا مختلة من التشظي منفصلة في حدوثها متصلة في الجرح والتصدع والألم...
إذن لا بد من القراءة كي يمكن فهم ذلك كله..
ما الفائدة في أن أعترض طريق القارئ الذاهب إلى كتابه بمجرد الوصف، دون أن أضيف اليه، أو أثيره أو أحفزه أو أغويه؟ لا زلت أتحاشى أن أقول لمن يرى شجرة تحترق انظر الشجرة تحترق.
بإمكاني أن أصف نص (غيابات) في إيقاعاته الأربعة (غفلت، سكرت، غفوت، انتبهت) أن أركز على طول نغمة السكرة عن نغمة الغفلة عن الغفوة عن الانتباه، عن التعادل بين الغفلة والغفوة، وبالتالي التعادل بين متضادي السكرة والانتباهة. لكني عدلت عن ذلك..
الحقيقة التي اكتشفتها بالقراءة هو أن مجموعة شجرة النار هي نصوصنا نحن، أعني أنها تحويل مشاعر الذات المعاصرة إلى نص شعري. إنها عنّا إنها خطابنا ومشاعرنا نحن. وتلك هي قدرة الشاعر وقوته في ترجمة ما يعتمل داخلنا ويتسرب من قبضة وعينا إلى كلمات:
(أنا/ لا راغبٌ.. لا راهبٌ/ بل عالقٌ في الموت)
من هذا العالق في الموت إن لم يكن أنا وأنتم.. هكذا يمكننا أن نرى أنفسنا في اللوحة النصية الفنية لمرآة الكلمات، الشاعر يحول ذاته لنتمكن نحن من رؤية أنفسنا هناك في ذاته هو، إنهُ يشخصنا، يعرينا ويجعلنا نواجه المرآة. لنرى هياج رغباتنا كما في نص جسد ص31:
(جسدٌ ناضجٌ راغب في القطاف)
لنرى المسافة ما بين وحشيتنا ورهافتنا الجسدية كما في نص نرجسة وذئب:
(مستوحشٌ في قطيعي/ أسابق نسر المسافة نحوك/ أطعن خاصرة الوقت/ آتيكِ أرقدُ بين ذراعيك فرواً وديعاً/ تداعبني مقلتاك، وتحنو على شفتي حلمتاك) ص88
لنرى خوفنا وتوجساتنا من الغد مثلما في نص (في مهب الحطام) الذي يمضي على إيقاع (هبّت العاصفة) كأنه هبوب العاصفة مقامٌ موسيقي.
هل لي هنا أن أشير إلى الإيقاعات الشعرية الموسيقية الملازمة لنصوص مجموعة شجرة النار؟ النار تشتعل بإيقاع، بطريقة إيقاعية، لكن ما الذي يراد إيقاعهُ بذلك الإيقاع.. هل من الضروري أن أذكر هنا أن الإيقاع جاء من الوقوع، مثلما هو التوقيع؟ الوقوع لكن لكل وقوعٍ صوتٌ صاعد.
قرأت شجرة النار وظننت أني قبضت على السر..

حرز اللامعنى 1:
حين كنا نفكُّ الحروز التي يكتبها المشايخ والمطاوعة والمنجمون كنا نجدُ طلاسم غير مفهومة، مهما حاولنا أن نضع كل كلمة منها في معنى، كانت تنفر من كل معنى، كانت تلك الحروز هي اللامعنى على هيئة تميمة تعلّق وتُحرز، وتَحرز من الشر، وتبطل الحظ الرديء، هل يمكن أن شجرة النار هذه في داخلها تميمة هي سرها.
شدني حين رأيت شجرة النار تتحدث أو بالأحرى تشتعل باللامعنى كما في نص في سبيل الشمس (لا معنى لما يمكن أن يوصف بالمعنى) ص25 ويتكرر هذا في نص رجاء ص 37 (قد أكون بلا أي معنى) وكما في المرثية الأخيرة ص79: أربو كأيامي بلا معنى/ بلا خجلٍ من الآتي/ ولا ندمٍ من الماضي/ وذاكرتي خراب.
كانت كلمة اللامعنى تتكرر وكل تكرار منها يجعل لها وقعاً مؤكداً، أو وقيعة مؤكدة، عدت أقرأ من جديد لأبصر هذا اللامعنى، هل يمكن أن هذا اللامعنى الذي تتكلم عنهُ المجموعة هو رابطها فيما يسميه باشلار علم نفس النقد الأدبي؟ ويمكن عبر الامساك به البلوغ إلى صلب لاوعي النص؟!
أعدت ترتيب قرائتي من جديد، وفكرت أن اللحظة التي ينفضح فيها السر هي لحظة السكر، إذا سكرَ النصّ فسيفيض أسراره، هكذا عدت من جديد إلى نص غيابات إلى واقعة السكر (فسكرت، وإذا بي قد تربعت على عرش الكلام الهش/ ظلاً/ يخلق الأوهام من ثرثرة الخمر/ ويلقيها على قارعة الليل/ ليستجدي انفعالات وجوهٍ/ غارقاتٍ في غيابات المعاني/ ودمي يصرخ كالبحرِ هي الخمرة).
لم يخب حدسي إذن، ها هو اللامعنى يتكرر على هيئة غيابات المعاني، وكما هو واضح فإن الذي يتربع على عرش الكلام الهش ليس إلا الشاعر، وهو الذي يلقي على قارعة الليل مخلوقاته من الكلمات، لكن هل عرفتم الوجوه الغارقة في غيابات المعاني؟ أليست هذه وجوهنا نحن؟ من سيكون إذن غير القراء هم من يمثلون تلك الوجوه المتطلعة إلى غيابات المعاني، أليست غيابات المعاني معادلة للامعنى؟! اذن هي انفعالات وجوه الناظرين القارئين أو المستمعين المحاولين هتك سر اللامعنى.

خمريات النص:
إذن هناك من يتطلعون إلى اللامعنى، أو إلى غيابات المعاني، لحظة السكرة النصية لم تخيب ظننا، لكن لننتبه ف (كالبحر هي الخمرة) كما يصرح النص، وهذه الخمرة تعيدني إلى نص (سؤال) حيث يبرر الشاعر لحبيبته سبب تعري الشعراء أمام البحر (أتدرين يا حبيبتي/ لماذا يتعرّى الشعراء/ أمام البحر؟/ طمعاً في أن يمنحهم قميصه الأزرق) ص65 إذن هذا هو السبب، والشعراء يشربون البحر ويسبحون في الخمر لنفس السبب، كي يمنحهم البحر والخمر شيئاً ثميناً، لكن ماذا سيحصدون من الخمر، هل ستمنحهم الخمر ثوب نشوتها القوية؟!

حرز اللامعنى داخل شجرة النار:
حين دخلنا حانة النص كنا نبحث عن اللامعنى لكن ما اكتشفناه في الحانة غير كافٍ تماماً، لكنهُ كافٍ على الأقل لنكتشف إلى أي مدى بلل الشاعر الشجرة بالكحول كي يزداد توقدها بالنار أكثر، لكن لم ينكشف بعد هذا اللامعنى ، لماذا يتكرر هكذا، ما هو السر الدفين وما هذه التميمة. هكذا سنكتشف وجهاً جديداً كامناً هناك، حيث هناك في أعماق هذه الشجرة النارية، هناك التي تعني هنا الماضي.
لنعد إذن للماضي الموجود في نص شجرة النار، في الذكريات، لنتعرف على الأجداد الذين يصفهم النص (شققت أقدامَهم أحلامهم) أحلام تشقق الأقدام كالحجارة المسننة، بل يتأكد أنها كذلك حين نقرأ ص33 (نبت الحلم كالعشب بين صخور الجبل). أن الأحلام الملقية بين العشب هي الحجارة فعلاً.
لنقرأ إذن نصاً عن ذلك الماضي كما في نص: في سبيل الشمس ص 23، فهناك تتموضع كما ذكرنا أول إشارة لافتة للقارئ عن اللامعنى (لا معنى لما يمكن أن يوصف بالمعنى) هناك إذن، ولا بأس من التكرار أن هناك تعني هنا في الماضي، النص يحكي عن رحلة: ( حملوا رائحة الطين وساروا للجبال/ كي يصيدوا الشمس في مكمنها/ ويعودوا بالمحال) تلك الرحلة التي انتهت بأن طوتهم الصحراء وابتلعتهم في نهاية القصيدة/ الرحلة/ القصد. وقبل النهاية سنقرأ أو سنسمع:
(لا صدى/ عرق الصبّار يسقيهم معانيه/ ولا معنى لما يمكن أن يوصف بالمعنى/ هم المعنى/ السراب/ في سبيل الشمس ذابوا) ص25
أليس الميزان مضبوطاً بين الكفتين الآن، في كفة لدينا اللامعنى وفي الكفة الأخرى المعنى السراب، هم، الذين رحلوا تلك الرحلة المستحيلة، لكن من هؤلاء، هل يمكن أن نتعرف عليهم من رائحة الطين؟! من الفعل في صيغة الماضي؟! ألا يبدو واضحاً أن هؤلاء هم الأجداد؟ وأن ما يفترض به أن يمسك ويمتلك بكل قوة معناه الخاص يصبح مع مرور الزمن معنىً موصوفاً بالسراب؟
للحظة يمكن أن نقول أن النتيجة مغالية، لماذا يكون للأجداد هذا المعنى السرابي؟! فلنعد إلى مقطع في نص غيابات: (ورأيت الناس أشباحاً/ إلى هاوية الموت يسيرون/ فرادى/ يسرقون اللحظة العذراء من فك الليالي/ ويعودون إلى أوهامهم يبنون مثلي قصرها) حين أقرأ هذا النص أشعر فعلاً أنه يجعل للحياة معنى سرابياً.
لكن لا يكفي أن نضع الموت أمامنا كي نقرر أن اللامعنى حيث وصفنا، ولا يمكن الاطمئنان إلا لدليل واضح، صريح، وهو الذي سنجدهُ في انهماك ص53:
فتشت كثيراً/ في كلام الأسلاف/ فلم أجد/ حكمة توازي صمتهم)
إنها الحكمة الأثمن، وإذا كان الصمت هو الحكمة الأثمن، فيجوز حكماً أن يكون ما عداه (ما عدا الصمت) بلا معنى، واللامعنى ليس بالضرورة هو الخلو من القيمة الاعتبارية، لأن اللامعنى هو كل ما لم يجد معناه بعد، ما لم يتقولب نهائياً، اللامعنى هو الذي لا يزال يشتعل في المصهر في ضياء النجوم، في المستقبل، ما لم يبرد ويسكن في جسدٍ أو قالب، كل ذلك هو اللامعنى وتلك هي اللحظة التي يحاول الشاعر بمثل هذه المجموعة القبض عليها.

وقود المعاصرة:
هنا إذن في الزمن الذي لم يتم اصطياده بعد في نص صيد، لذلك يعدُ الشاعر بأنهُ سيهيئ لاصطياده مصيدة أوسع، هنا حيث: خوخة كبيرة تنضج في بطن البعيد هي الشمس ص43
هنا حيث هنا الحاضر، الحاضر الذي يعني الآن، وحيث للمرء أن يصف مدينته بأنها أيضاً ملتبسة في اللامعنى (يا لغربة الروح في هذا المكان الملتبس/ لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك/ البريمي مطهر الشاعر المعلق/ بين فردوس الحب وجحيم الحنين)
لأن اللامعنى هو أيضاً الذي لم يتم تصنيفه بعد إلى فردوس أو جحيم، هو الذي لم يُحسب أو يحاسب بالميزان، هو الذي ما زال في المطهر، أو على الصراط.
إنها إذن النشوة السكرى على نص( الأعراف) أو في (المرثية الأخيرة) رجٌّ قويٌّ للكأس الخمرية ووصبها في كؤوس النص التي هي الكلمات، إنها تمثُّل اللحظة المعاصرة، القبض على اللامعنى المعاصر، والشعر يشعر حتى بما لا معنى له بعد، ويستحضره في القصيدة. في الشعر، فيما سُفح من مداد المعاني ( أكون بما بصرتني بهِ هبّة الشعرِ/ كوني./ مدادُ المعاني الذي سفحتهُ القوارير لوني) ص92
لم يبدُ الأجداد كما في حرز اللامعنى بلا معنى إلا انعكاساً لمآل الحاضر، انعكاس لقراءة اللحظة التي ولدت من ذلك الماضي، هكذا يأخذنا الشاعر، في مجموعته لنقرأ قصائد عنا، عن مخاوفنا الفانتازية كما في نص شجرة النار الذي أخذت منه المجموعة اسمها، حيث تؤخذ الكلمة الشعبية السكرانة (أحرقها) وتوضع في بناء نصيّ، وفي البناء النصي يُقتل القائل، كي يُحرق ويصير رماداً تنمو منهُ شجرة يستدعى ليأكل ثمرتها نيرون.
الآن أظن يصير بامكاننا أن نفهم لماذا يكرر الشاعر ويصرخ في المرثية الأخيرة (أنا الغياب/ أنا الغياب/ أنا ا ل غ ي ا ب) ص 85 وما هو هذا الغياب وما شكله..
تختتم شجرة النار باللعب كما في نص أرق، بسبب الأرق على: (أفكر أن لا أفكر أو أتذكرَ حزني) ثم لا يكون ذلك إلا دعوة للتفكير أكثر فيما يفترض عدم التفكير فيه، وتذكر الحزن أكثر.. وتلك القفلة الممتعة لمجموعة شجرة النار الكامنة هناك حين تنقلب (لا أفكر) إلى (أفكر.. أفكر أحصي خراف الظلام/ لعلي أنام).

* نص الورقة التي ألقيت في صالون فاطمة العليان يوم الاثنين 3/3/2014 بمعرض مسقط ال19 للكتاب..

إبراهيم سعيد