[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
حتى يمكن فهم ما يجري على صفيح ساخن أحداث المنطقة والعالم وحالة التكالب غير المسبوقة على دول المنطقة، لا بد من محاولة قدح زناد الذاكرة لتنشيطها بربط ماضي التصريحات بلاحق الأحداث؛ أي ربط الأقوال بالأفعال، لعل هذه الذاكرة تستعيد جزءًا من حيويتها وعافيتها وخاصة تلك الذاكرة التي ران عليها السقوط الأخلاقي والمهني لبعض قنوات السمسرة والعمالة، سواء على مستوى المنطقة أو على مستوى العالم.
فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وتفرد نجم أحادية القطبية الأميركية في سماء العالم، حددت الولايات المتحدة أعداءها التالين للاتحاد السوفيتي، وبدأت مرحلة الإعداد للتخلص منهم، وهؤلاء الأعداء المعيقون للطغيان الأميركي وسلب إرادة شعوب العالم وبخاصة شعوب المنطقة، والاستيلاء على ثرواتهم ومقدراتهم: الإسلام، والقوى القومية العربية، والحاكمة منها تحديدا، وقوى المقاومة. وكما هو معروف وثابت عن سياسة الولايات المتحدة أنها لا تقدم على تنفيذ هدفها ومشروعها قبل إيجاد مبرر قوي أو ذريعة قوية؛ ولأجل ذلك اشتغلت وكالات الاستخبارات الأميركية وبالتعاون مع الموساد الإسرائيلي، بما لديهما من قدرة على اختراق التنظيمات الإرهابية وبحكم العلاقة القائمة بين قيادات وعناصر داخل التنظيمات وبين وكالات الاستخبارات تلك، لتخرج من رحم هذه العلاقة غزوة نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وتكون شارة انطلاق العمل نحو التخلص من الأعداء الثلاثة. فما قيمة برجين انهارا ومقتل حوالي ثلاثة آلاف شخص أمام هدف استراتيجي بحكم العالم والهيمنة عليه، لا يتنفس أحد ولا يأكل أو يشرب، ولا يتحرك أو يسكن ولا ينام أو يستيقظ إلا بإذن من الولايات المتحدة التي يجب على الجميع أن يسبح بحمدها صباح مساء. فقد نتج عن ذلك إعلان الحرب الصليبية على لسان الرئيس الأميركي جورج بوش "الصغير" على الإسلام تحت ستار "الحرب على الإرهاب" التي مهدت الطريق نحو التخلص من حزب البعث في العراق، ثم محاولة التخلص من المقاومة بدءًا من تفخيخ العلاقة بين حركتي فتح وحماس، وإعلان الحرب على لبنان في صيف عام 2006 باستهداف المقاومة الإسلامية في لبنان، والتي (أي الحرب الصليبية) نجحت في تشويه صورة الإسلام، والإتيان بإسلام يناسب مشروع الهيمنة الصهيو ـ أميركي، في ترجمة عملية لما قاله جيمس وولسي رئيس الاستخبارات الأميركية في العام 2006م: سنصنع لهم إسلامًا يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، ثم يتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية، ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر"؟ فالإسلام الذي يناسب المشروع الصهيو ـ أميركي والذي بشر به هو إسلام/إرهاب "داعش والنصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام وجيش الفتح" وهلم جرا من مشتقات تنظيم القاعدة الإرهابي. ولا تزال الحرب الصليبية مستمرة للتخلص من البعث في سوريا والمقاومة في لبنان وسوريا وفلسطين، بتوظيف (الإسلام) المنتج أميركيًّا ـ صهيونيًّا والمدعوم إقليميًّا ومن بعض العرب فكرًا وتمويلًا.
ويبدو أن الأسلوب الأميركي في خلق الذريعة/الجريمة لإنجاز الهدف أو الشروع فيه مؤاتٍ ومُلْهِم للآخرين، على النحو الذي بان في غزوة باريس يوم الجمعة الثالث عشر من نوفمبر 2015، من أجل مواصلة الحرب الصليبية بأدواتها الجديدة من إسلام/إرهاب "داعش والنصرة وجيش الفتح وأحرار الشام وغيرها" إلى أبقار البترودولار والأعراب والقوى الرجعية والعميلة. وحين نقول ذلك، ليس تجنيًا أو ابتداعًا، وإنما هنالك ما يشير إلى ذلك، مثلما أشار من قبل إلى هجمات سبتمبر، ومن بين ذلك:
أولًا: من حيث المكان والتاريخ والتوقيت، فقد شنت يوم الجمعة الـ13 من نوفمبر، عشية إجازة نهاية الأسبوع التي يتسنى خلالها خروج أكبر عدد من العائلات والشباب للتنزه والترفيه، والأماكن التي استهدفت هي أماكن تسلية وترفيه (ملعب كرة القدم في ضاحية سان دني، وقاعة للحفلات الموسيقية بباريس، وأرصفة مقاهٍ ومطاعم في الدائرتين العاشرة والحادية عشرة الباريسيتين: شارع بيشا، وشارع فونتين أو روا، وشارع شارون وشارع فولتير). وهذه الأماكن عامة، بمعنى أنه لا يتوافر فيها رقابة أمنية أو تندر الرقابة (لاحظوا ست عمليات تمَّت خلال أربعين دقيقة). واضح أن المراد هو سقوط أكبر عدد من الضحايا لكي يتناسب مع رد الفعل المبتغى، وهو ما كان. كما أن إعداد مسرح الجريمة جرت محاكاته كأشباهها في العراق وسوريا وليبيا ولبنان.
ثانيًا: مسارعة الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول المكونة لمعسكر التآمر والعدوان على سوريا إلى إدانة الهجمات، في حين أن هذه الدول لم تُدِنْ الهجمات الإرهابية التي ارتكبها "داعش" الإرهابي في برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية، كما لم يُدِنْ الاستهداف الإرهابي للطائرة الروسية في سيناء، بل إن صحيفة "شارلي أيبدو" الفرنسية سخرت من حادثة الطائرة بصورة فظة، مثيرة بذلك رد فعل روسيًّا غاضبًا. كما سخرت من قبل من غرق الطفل السوري إيلان.
ثالثًا: إعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن الفاعل هو تنظيم "داعش" الإرهابي، قبل أن يعلن التنظيم تبنيه للهجمات، وقبل أن تشير التحقيقات إلى ذلك. ومؤدى هذا ـ في تصورنا ـ ما نحاول توضيحه في الإشارتين (رابعًا وخامسًا).
رابعًا: إن التدخل الروسي العسكري في سوريا قلب الطاولة على الجميع في معسكر التآمر والعدوان، ليس ببدء كشف الحقائق التي تدين الدول الضالعة في رعاية الإرهاب وتمويله فحسب، وإنما خشية باريس من خسارة ما كان متاحًا لها قبل التدخل العسكري الروسي في سوريا، وخسارتها مصالحها كاملة في سوريا، ولذلك تحاول العودة إلى الساحة السورية، ولا سبيل إلى ذلك إلا من بوابة محاربة "داعش" والانتقام منه، بعد اكتمال الذريعة/الجريمة.
خامسًا: ثمة تنافس محتدم في السمسرة بين البريطاني والفرنسي للأميركي، ويحاول الفرنسي التقدم خطوة نحو الأميركي ونيل رضاه، فضلًا عن الدين في رقبة الفرنسي لدول البترودولار التي عقدت صفقات أسلحة وصفقات اقتصادية، بهدف مواصلة دور المعطل والمعرقل للحل السياسي للأزمة السورية وإطالة أمد الصراع واستنزاف الدولة السورية والإطاحة بها بدعم الإرهاب.
سادسًا: إدارة الفوضى من خلال مضاعفة رقعة انتشار الإرهاب بحق الشعب السوري والعراقي والليبي وغيره لإجباره على الهجرة وإفراغ تلك الدول من الثقل السكاني، ومن ثم اتهام المهاجرين بأنهم إرهابيون يجب إعادتهم إلى دولهم، أو اتخاذ إجراءات بحقهم، وكذلك التضييق على حرية المسلمين بغلق مساجد ومراقبة أخرى.
هناك لا يزال كثير ممن يرفض ما سقناه أعلاه، في إطار رفضه نظرية المؤامرة، ولكن حتى لو كان ذلك صحيحًا، فإن هجمات باريس هي نتيجة طبيعية لمن يدعم غول الإرهاب ويموله ويدافع عنه، ويرفض محاربته ويعطل الحلول السياسية، وبالتالي عليه أن يتحمل لدغاته التي ـ للأسف ـ لا يدفع ثمنها باهظًا سوى الشعب الفرنسي وشعوب الدول المتورطة في دعم الإرهاب والذين يتوجب عليهم أن يعيدوا تموضعهم ومواقفهم مع السياسات الحمقاء التي تتبعها حكوماتهم تجاه القضايا الدولية وحتى الداخلية.