د.أحمد القديدي* كاتب تونسي
” اليوم ونحن في سنة 2015 يظل الشعب الفلسطيني وحده تحت أخر احتلال استعماري جائر وقاتل وهو وضع مناف لكل الأخلاق الكونية والقوانين الدولية ومنه اندلعت فتن انقسامات و انتشرت بؤر أزمات على أغلب مناطق مشرقنا الإسلامي ولا يمكن أن تقنع الصين الصديقة بموقف المحايد والمتفرج بل إن روح (باندونج) هي التي يجب استدعاؤها...”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
من أنجح الندوات الدولية التي دعيت إليها تلك التي نظمتها وزارة الخارجية القطرية و جامعة الدول العربية والحكومة الصينية يومي 10 و 11 نوفمبر الجاري وقام بإنجازها وتفعيلها المعهد الدبلوماسي القطري بكفاءة عالية وكان محورها ابتكار آليات تطوير العلاقات الصينية العربية وصدر عنها بيان شامل يتجه للمستقبل على ضوء التحديات العسيرة الراهنة والتحولات الجيوستراتيجية التي شملت العالم بأسره. وأعتقد بصدق أن مستوى المشاركين في أعمال الندوة من عرب وصينيين أعطاها من دقة التحليل وصحة التشخيص ونجاعة المقترحات ما جعل هذه الندوة محطة راقية وضرورية لرسم معالم خارطة طريق الحرير كما نتمناها. فقد جاء من (بيجين) وزير الخارجية الصينية السابق ورؤساء أكبر المؤسسات الأكاديمية والسياسية في جمهورية الصين وجاءت من العالم العربي نخبة سفراء وأساتذة جامعات وخبراء في التعاون العربي الصيني. و طريق الحرير هو الاسم التاريخي لمسالك التواصل بين الأمتين الصينية والعربية على مدى القرون وهو طريق آلاف الكيلومترات يؤدي من وإلى الصين عبر حواضر وموانئ المشرق الإسلامي وكان معبرا لقوافل التجارة ولكن أيضا لتبادل الكتب والفنون والعلوم وعلى هذا الطريق مر الحرير الصيني الى الشرق واستورد العرب الورق والحبر والبارود منذ 14 قرنا وطعموا علومهم في الفلك والطب و الرياضيات والصيدلة بما لدى الصين من رصيد ثري كما صدر العرب الى الصين إنتاجهم من مختلف الصناعات والتوابل والحرف الفنية وانتقل الى السواحل الصينية تجار وعلماء و بحارة ودعاة وجغرافيون وبفضل مغامراتهم و جهودهم توثقت العلاقات وتحول طريق الحرير إلى طريق انتقال الثقافة والحضارة ولعل عهد الخليفة الأموي الصالح عمر بن عبد العزيز تميز ببعث أول سفير للصين هو القاضي جميع بن حاضر بعد فتح سمرقند (720 م) و بعد 30 سنة زار الصين رحالة بحار من سلطنة عمان هو عبد الله بن قاسم و سن مسلكا تجاريا ظل فاعلا لمدة طويلة. و يروي المؤرخون أن بابا المسيحية أراد سنة 1230 أن يرسل مع الرحالة (ماركو بولو) رسالة الى أمبراطور الصين فسأل البابا مبعوثه بأية لغة يكتب الرسالة ؟ فالبابا لا يجيد اللغة الصينية و أمبراطور الصين لا يعرف اللاتينية فقال له (ماركو بولو) : "أنصحك أن تكتب له باللغة العربية النبيلة فإنها لغة الثقافة في العالم". هذه كانت منزلتنا ومنزلة لغتنا قبل 800 سنة أي قبل أن يصاب العرب بلوثة احتقار الذات و تأليه الأمم الغربية الطاغية. ونذكر بأن الخلافة الإسلامية ظلت متاخمة للحدود الصينية على مدى قرون أي أن الأمتين كانتا جارتين لكن لم تندلع بينهما حروب ولا قامت فتن ولا نشأت أزمات بسبب سماحة الإسلام لدى الخلافة وعقيدة السلام الكنفوشية الصينية فكان الجوار الطويل حمال تقدم للحضارة الإنسانية في مجالات العلوم والأداب. وحان الوقت اليوم كما اقترحت أنا في مداخلتي أن تتحمل الصين الشعبية وهي عملاق بين العمالقة أمانة فرض السلام في منطقة الشرق الأوسط حيث تهب علينا عواصف الحروب الأهلية المفروضة و تنذر بمعاهدات جديدة بين القوى الأمبراطورية العاتية لتقاسم تركة الرجل المريض كما تقاسمه (سايكس بيكو) منذ قرن.
فالصين مدعوة لإعادة إحياء روح (باندونج) وهي الروح التي تأسست عليها منظمة عدم الانحياز إنطلاقا من مؤتمر (باندونج) سنة 1955 و الذي نظمه الرئيس الأندونيسي أنذاك أحمد سوكارنو في جزيرة (باندونج) وكان بطله الأول الزعيم الصيني (شوأن لاي) وحضره الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس اليوغسلافي بروز تيتو والزعيم الهندي جواهر لال نهرو. كان هذا المؤتمر بفضل موقف الصين مؤذنا بتصفية الاستعمار الغربي للشعوب حين كانت أغلب بلداننا ترزح تحت نير الاستخراب ومنها تونس والجزائر والمغرب وسائر بلدان إفريقيا.
اليوم ونحن في سنة 2015 يظل الشعب الفلسطيني وحده تحت أخر احتلال استعماري جائر وقاتل وهو وضع مناف لكل الأخلاق الكونية والقوانين الدولية ومنه اندلعت فتن انقسامات و انتشرت بؤر أزمات على أغلب مناطق مشرقنا الإسلامي ولا يمكن أن تقنع الصين الصديقة بموقف المحايد والمتفرج بل إن روح (باندونج) هي التي يجب استدعاؤها من أجل ضغط صيني ناجع لتحويل مجرى الأحداث نحو تحقيق العدل والأمن وحفظ السلام في العالم. فالصين قوة اقتصادية وهي المالكة لأكبر مخزون للدولار وهي مصنع العالم ومركز التبادل التجاري الأوسع في العالم إلى جانب كنوزها الحضارية العظمى ولا بد لبيجين أن تؤكد حضورها إلى جانب القوى العظمى المورطة في تدخلات عسكرية والمنحازة الى طرف من أطراف النزاع على حساب الحق والقانون والشرعية على عكس الأمة الصينية التي نأت بنفسها عن توظيف أزمات المنطقة لصالحها وصالح توسعها. خلال الندوة تقبل أصدقاؤنا الصينيون هذه الرغبة الصادقة بامتنان ونأمل أن نلمس قريبا تجسيدها في سياسة خارجية صينية أكثر حركية و تفاعلا مع تحولات العالم. ثم إن ما لفت أنظارنا في الندوة هو محور العلاقات الحضارية حيث لم تقتصر على التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بل ارتقت إلى بحث مناهج التحالف الحضاري بين أمتين لديهما رصيد كبير وأحيانا مشترك من التراث العالمي الأصيل لكن جهودنا العربية تبقى منقوصة في مجالي تعليم اللغة الصينية وترجمة الكتب الصينية بينما تنشط بيجين في التعريف بالثقافة العربية في 150 من جامعاتها في حين أن 7 جامعات عربية فقط تدرس اللغة الصينية.