صندوق النقد: هبطت أسعار النفط بمعدل تجاوز الـ 60%
منذ يونيو ومن المتوقع أن تظل الأسعار منخفضة لفترة أطول
ـ الفشل في إيجاد علاج شامل لمشكلة انبعاثات غازات الدفيئة يعرض هذا الجيل والأجيال القادمة لمخاطر لا حصر لها

واشنطن ـ "الوطن":
رحج صندوق النقد الدولي أن أن تظل أسعار الوقود الأحفوري منخفضة لفترة طويلة، ورغم أهمية التقدم الذي تحقق مؤخراً في استحداث مصادر متجددة للوقود، فإن انخفاض أسعار الوقود الأحفوري يمكن أن يكون مثبطا ًلزيادة الابتكار في التوصل إلى تكنولوجيات أنظف والأخذ بها، مما يزيد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغيره من غازات الدفيئة.
وقال رابح أرزقي وموريس أوبستفلد في مقال نشره الصندوق على موقعه الإلكترونية: ينبغي ألا يسمح صناع السياسات بأن يتسبب انخفاض أسعار الطاقة في عرقلة التحول الطاقة النظيفة، فهناك ضرورة ملحة لاتخاذ إجراءات تستعيد الحوافز السعرية الملائمة، ولاسيما من خلال فرض ضرائب تصحيحية على الكربون، بغية الحد من مخاطر آثار تغير المناخ التي لا تزول والتي قد تكون مدمرة، ويحقق هذا المنهج منافع أيضاً على مستوى المالية العامة.
انخفاض طويل الأجل
هبطت أسعار النفط بمعدل تجاوز 60% منذ يونيو 2014، وهناك رأي شائع في صناعة النفط بأن "أفضل علاج لانخفاض أسعار النفط هو أسعار النفط المنخفضة"، ويرى أصحاب هذا القول المأثور أن أسعار النفط المنخفضة لا تشجع الاستثمار في زيادة الطاقة الإنتاجية، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى نقل منحنى المعروض النفطي إلى الوراء وعودة ارتفاع الأسعار مع احتمال أن تنضب حقول النفط الحالية ـ والتي يمكن الحصول على الإمدادات منها بتكلفة حدية منخفضة نسبياً، والواقع أنه، على نسق التجارب السابقة، حدث هبوط حاد في الإنفاق الرأسمالي في قطاع النفط لدى كثير من البلدان المنتجة، بما فيها الولايات المتحدة، غير أن التكيف الديناميكي مع أسعار النفط المنخفضة قد يختلف هذه المرة.
ومن المتوقع أن تظل أسعار النفط منخفضة لفترة أطول، فظهور إنتاج النفط الصخري، الذي أتاحته تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي، أضاف حوالي 4.2 مليون برميل يوميا إلى سوق النفط الخام، مما ساهم في حدوث تُخمة من المعروض العالمي، وسيؤدي النفط الصخري إلى تقصير دورات أسعار النفط وزيادة محدوديتها، بل إن النفط الصخري يتطلب مستوى أقل من التكاليف الغارقة مقارنة بالنفط التقليدي، كما أن الفاصل الزمني أقصر بكثير بين الاستثمار الأول والإنتاج، وبالإضافة إلى ذلك، لا يزال النفط الصخري في مرحلة مبكرة نسبياً من دورة حياته الصناعية، حيث لا يزال هناك متسع كبير للتعلم، هو ما يتضح من مستويات الإنتاج التي ظلت صامدة بفضل مكاسب الكفاءة الاستثنائية التي فرضها الهبوط الكبير في أسعار النفط.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك عوامل أخرى تفرض ضغوطا خافضة لأسعار النفط، وهي التغير في السلوك الاستراتيجي لمنظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك"، والزيادة المتوقعة في الصادرات الإيرانية، وتراجع الطلب العالمي "وخاصة من الأسواق الصاعدة"، والهبوط المتواصل في استهلاك النفط في الولايات المتحدة، وبعض الاستعاضة عن النفط ببدائل أخرى، وتشير هذه القوى المرجح استمرارها، مثل نمو النفط الصخري، إلى سيناريو من "الانخفاض طويل الأجل"، حتى بعد أن تتبدد تركة الإمدادات التي خلفتها فترة ارتفاع الأسعار في الألفينات، ومما يدعم هذه الرؤية أن أسواق المستقبليات لا تشير إلا إلى تعاف متواضع يصل بأسعار النفط إلى 60 دولارا للبرميل بحلول عام 2019.
وقد حدثت انخفاضات مماثلة تبدو طويلة الأجل في أسعار الغاز الطبيعي والفحم ـ وهما من أنواع الوقود الأحفوري أيضاً، ويستخدم الفحم والغاز الطبيعي في الأساس كمدخلات في توليد الكهرباء، بينما يستخدم النفط في الغالب لتوفير الطاقة اللازمة للنقل، ومع ذلك، يوجد ارتباط بين أسعار كل مصادر الطاقة، بما في ذلك الارتباط المترتب على أسعار العقود التي تستخدم النفط كمؤشر قياسي، وقد أدت طفرة الغاز الصخري في أميركا الشمالية إلى بلوغ الأسعار مستويات منخفضة قياسية، وفي نهاية المطاف، سيكون لاكتشاف حقل غاز "ظهر" العملاق مؤخرا قبالة السواحل المصرية تداعيات على التسعير في منطقة البحر المتوسط وأوروبا، وهناك إمكانات تطويرية كبيرة في كثير من المناطق الأخرى، ومن أبرزها الأرجنتين.
وتتسم أسعار الفحم بالانخفاض أيضا، نظرا لفرط المعروض وتراجع الطلب، وخاصة من الصين التي تحرق نصف الفحم العالمي.
خطر يهدد الطاقة المتجددة
أطلقت الابتكارات التكنولوجية طاقة المصادر المتجددة، مثل طاقة الرياح والمياه والشمس والطاقة الحرارية الأرضية، وهناك إمكانات هائلة لتطوير مصادر الطاقة المتجددة حتى في إفريقيا والشرق الأوسط، موطن الاقتصادات شديدة الاعتماد على صادرات الوقود الأحفوري، فعلى سبيل المثال، اعتمدت الإمارات العربية المتحدة هدفا طموحا يتمثل في الحصول على 24% من استهلاكها الأساسي من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2021.
غير أن التقدم في تطوير المصادر المتجددة قد يكون تقدما هشا إذا ظلت أسعار الوقود الأحفوري منخفضة لفترة طويلة، فالطاقة المتجددة تشكل نسبة بسيطة وحسب من استهلاك الطاقة الأساسي العالمي، والذي لا يزال الوقود الأحفوري يشكل النسبة الأكبر منه ـ بواقع 30% لكل من الفحم والنفط و25% للغاز الطبيعي، ولكن سيلزم تحقيق زيادة كبيرة في إحلال الطاقة المتجددة محل الوقود الأحفوري في المستقبل لتجنب المخاطر المناخية غير المقبولة، ولسوء الحظ، قد تكون أسعار النفط والغاز والفحم المنخفضة في الوقت الراهن حافزا طفيفا للأبحاث الرامية إلى العثور على بدائل أرخص لهذا النوع من الوقود، وهناك أدلة قوية على أن ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري هو عامل مشجع قوي لابتكار واعتماد تكنولوجيات أنظف، وينطبق هذا على التكنولوجيات الجديدة لتخفيف انبعاثات الوقود الأحفوري.
وعلى ذلك فمن المؤكد أن أسعار الوقود الأحفوري المنخفضة السائدة حاليا ستؤدي إلى تأخير التحول المأمول في مصادر الطاقة، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التحول – من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة النظيفة ـ ليس هو الأول، فقد حدثت تحولات سابقة من الأخشاب/الكتلة الأحيائية إلى الفحم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومن الفحم إلى النفط في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهناك درس مهم نستقيه من هذا السياق، وهو أن هذه التحولات تستغرق وقتا حتى تكتمل .. ولكننا لا نستطيع الانتظار طوال هذا الوقت.
ونحن ندين للإنارة الكهربائية باستمرار وجود الحيتان في البحار، وما لم تصبح مصادر الطاقة المتجددة رخيصة بالقدر الكافي لترك رواسب الكربون الكبيرة في جوف الأرض لفترة بالغة الطول، إن لم يكن للأبد، فمن المرجح أن يتعرض كوكب الأرض لمخاطر مناخية قد تكون كارثية.
وربما تكون بعض الآثار المناخية ملموسة بالفعل، فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة إلى أن حوالي 11 مليون طفلا في شرق وجنوب إفريقيا يواجهون خطر الجوع والمرض ونقص المياه بسبب أعتى ظاهرة النينيو يشهدها العالم منذ عقود، ويرى كثير من العلماء أن موجات النينيو التي يسببها ارتفاع درجة حرارة سطح المحيط الهادئ بدأت تزداد حدة نتيجة لتغير المناخ.
تحديد السعر الصحيح للكربون
اجتمع العديد من بلدان العالم في باريس لحضور مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ، بهدف عقد اتفاقية عالمية وربما ملزمة قانوناً حول تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة، ونحن نحتاج إلى مشاركة واسعة للغاية حتى نعالج "مأساة المشاع" العالمية التي تحدث عندما تغفل البلدان الأثر السلبي لانبعاثاتها الكربونية على بقية العالم .. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي الاستفادة المجانية التي تتحقق لغير المشاركين، إذا كانت واسعة الانتشار، إلى تقويض الإرادة السياسية للتحرك في البلدان المشاركة.
وتركز البلدان المشاركة في قمة المناخ على التزامات تخفيض حجم الانبعاثات "المساهمات المعتزمة المحددة وطنياً"، ويشير المنطق الاقتصادي إلى أن الطريقة الأقل تكلفة على كل بلد لتنفيذ مساهمتها المعتزمة المحددة وطنياً هي تحديد سعر لانبعاثات الكربون، والسبب في ذلك هو أن تحديد سعر الكربون سيؤدي إلى إجراء التخفيضات المطلوبة في الانبعاثات الأقل تكلفة أولاً، وتشير حسابات الصندوق إلى أن بإمكان البلدان توليد إيرادات ضريبية كبيرة ـ إيرادات تسمح بفرض ضرائب أقل تشويها والقيام باستثمارات جديدة في الاقتصاد ـ عن طريق إلغاء دعم الوقود الأحفوري وفرض رسوم عن الكربون من شأنها رصد الأضرار المحلية الناجمة عن الانبعاثات، ومن السبل السهلة لوضع سعر على انبعاثات الكربون أن تُفرَض ضريبة على مصادر الكربون عند بداية سلسلة التوريد.
وسيكون تحقيق الأهداف الموضوعة منخفض التكلفة على البلدان التي تنفذ مساهماتها المعتزمة المحددة وطنياً من خلال سعر الكربون المحلي، ولكن التكلفة التي يتحملها الاقتصاد العالمي لتحقيق أي خفض في الانبعاثات الإجمالية ستكون مرتفعة بالضرورة ما لم يكن هناك تنسيق عالمي بشأن أسعار الكربون.
ولتعظيم الرخاء العالمي، ينبغي أن يعكس تسعير الكربون في كل بلد ليس فقط الأضرار المحلية المحضة للانبعاثات (مثل الآثار الصحية الناشئة عن الجسيمات التي تصاحب حرق الفحم) وإنما الأضرار التي تتعرض لها البلدان الخارجية أيضا.
وعلى ذلك سيؤدي تحديد السعر الصحيح للكربون إلى الاتساق الكفء بين التكاليف التي يدفعها مستخدمو الكربون وتكلفة الفرصة الاجتماعية البديلة الحقيقية لاستخدامه، ومن خلال رفع الطلب النسبي على مصادر الطاقة النظيفة، يساعد سعر الكربون أيضا على تحقيق الاتساق بين العائد السوقي والاجتماعي لابتكارات الطاقة النظيفة، مما يحفز تنقيح التكنولوجيات القائمة واستحداث تكنولوجيات جديدة، ومن شأنه أن يرفع الطلب على تكنولوجيات تخفيف الآثار المناخية مثل تكنولوجيا حبس الكربون وتخزينه، مما يحفز استحداث المزيد منها، وما لم يتم تصحيح أسعار الوقود الأحفوري المنخفضة من خلال أسعار ملائمة للكربون، فلن تصبح إشارة دقيقة للأسواق بشأن الربحية الاجتماعية الحقيقية للطاقة النظيفة، وبينما تتباين التقديرات المختلفة لأضرار انبعاثات الكربون، ورغم الصعوبة البالغة لحساب التكاليف المرجحة للأحداث المناخية التي يمكن أن تكون كارثية، فإن معظم التقديرات تشير إلى آثار سلبية جسيمة.
وقد اعتمدت بعض الحكومات دعما مباشرا للأبحاث والتطوير، ولكن هذا الدعم يمثل بديلا هزيلا لسعر الكربون، إذا أنها تنجز جزءا من المهمة وحسب، تاركة من الحوافز السوقية ما يتسبب في فرط استخدام الوقود الأحفوري ومن ثم تضخيم رصيد غازات الدفيئة في الغلاف الجوي دون النظر إلى التكاليف المصاحبة.
ومن الناحية السياسية، قد تتيح أسعار النفط المنخفضة فرصة مواتية لإلغاء الدعم واستحداث أسعار للكربون يمكن رفعها تدريجيا مع الوقت لتصل على مستويات الكفاءة، ولكن قد يكون من غير الواقعي استهداف السعر الأمثل الكامل دفعة واحدة، فسيكون لتسعير الكربون في العالم انعكاسات توزيعية مهمة، سواء عبر البلدان أو داخل كل منها، وهي انعكاسات تتطلب التنفيذ التدريجي، مع تكميلها بتدابير للتخفيف والتكيف بغية توفير الحمالية للفئات الأكثر تعرضا للخطر.
والأمل معقود على أن يؤدي نجاح مؤتمر باريس إلى فتح المجال أمام عقد اتفاقية دولية بشأن أسعار الكربون في المستقبل، وسيكون الاتفاق على حد أدنى دولي لسعر الكربون بمثابة نقطة بدء جيدة في هذا الصدد، غير أن الفشل في إيجاد علاج شامل لمشكلة انبعاثات غازات الدفيئة يعرض هذا الجيل والأجيال القادمة لمخاطر لا حصر لها.