[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]

من يتابع السجال الدائر بين الدبلوماسيتين الروسية والأميركية على خلفية الأزمة التي افتعلتها الأيادي الصهيونية الخبيثة بالتعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا، أول ما يتبادر إلى ذهنه أن هذا التسخين غير المسبوق هو مقدمة لحرب كونية ثالثة. غير أن هذا هو ما يميز طبيعة الصراعات على المصالح والنفوذ في هذا الفضاء العالمي، حيث ظلت على الدوام مصحوبة بسخونة حينًا وببرودة حينًا آخر، وإن كانت شهدت مواجهات عسكرية دامية بين أقطابها في الزمن الماضي.
وعلى الرغم من أن هذا السجال في حقيقة أمره هو صراع مصالح ونفوذ بين القوتين الكبريين (روسيا الاتحادية والولايات المتحدة) فإنه مخاض ولادة جديدة لعالم متعدد الأقطاب والنفوذ والمصالح.
وما يدور اليوم في أوكرانيا من أزمة نشبت بسبب الانقلاب الأميركي ـ الأوروبي على الشرعية وتمزيق الاتفاق الذي وقعه الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش مع المعارضة الأوكرانية برعاية أوروبية ـ أميركية ـ روسية، له ارتباط مباشر بما يدور من أحداث في سوريا، حيث أرادت الأصابع الصهيونية الخبيثة العابثة باستقرار العالم أن تستنسخ عبثها في الدول العربية وخاصة في سوريا المتمثل في كذبة "الربيع العربي" إلى أوكرانيا لما تمثله من أمن قومي استراتيجي، فغلاة الصهاينة المخططين لدمار منطقتنا وإعادة رسم خريطتها وفي مقدمتهم الصهيوني المتطرف برنار هنري ليفي مهندس "الخريف العربي" أرادوا معاقبة روسيا التي رأوا في مساعيها نحو تأمين مصالحها القومية والاستراتيجية، ومواقفها الداعمة للشرعية الدولية والداعية لاحترام القانون الدولي بدعمها سوريا في وجه المؤامرة التي تستهدفها، تهديدًا حقيقيًّا لمشروعهم التدميري للمنطقة المسمى زورًا "الربيع العربي" الذي تحطم على صخرة صمود الشعب السوري واستبسال جيشه البطل، حيث كان عماد مشروعهم الإتيان بالحركات الإسلامية إلى سدة الرئاسة في الدول العربية المكتوية بإرهاب كذبة "الربيع العربي"، وذلك لإضفاء الهوية الإسلامية على الأنظمة المقامة على أنقاض الأنظمة المطاح بها، ليكون بذلك مقدمة لإعلان كيان الاحتلال الصهيوني "كيانًا يهوديًّا" للشعب اليهودي، ولتكون الأنظمة الوليدة ـ باسترضائها وإعطائها ما كانت تطمع فيه منذ زمن ـ أداة طيعة في يد القوى الغربية الاستعمارية الامبريالية المتحالفة مع كيان الاحتلال الصهيوني، وكذلك بحكم اختلافها الآيديولوجي يمكن أن تكون سلاحًا في مواجهة القوة الإيرانية الصاعدة وعزلها ومحاصرتها في المنطقة، وقد تبدى ذلك بصورة واضحة في تونس وليبيا والمغرب، وفي مصر حين أعلن الرئيس المعزول محمد مرسي قطع علاقات مصر مع سوريا والهجوم الطائفي غير المسبوق على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
إن العبث الصهيوني بأمن دولة عظمى بحجم روسيا ـ بوتين بتلغيم جوارها وأراضيها بالتوترات والفوضى والإرهاب وتهديد أمنها القومي، هو مغامرة وحماقة في الوقت ذاته، والأكثر حماقة هو الانخراط الأميركي في الأزمة التي مكوناتها وظروفها تؤكد أنها مؤامرة، والأكثر حماقة أيضًا تبعية أوروبا للولايات المتحدة والتي في كل مصيبة وكارثة تبرهن على الوصف المعطى لها بأنها "بيبي أميركا"، دون أن يقع في وعيها وحسبانها أن الولايات المتحدة حين وضعتها في قلب المؤامرة إنما تريد التضحية بها في مواجهة الدب الروسي لتجمع الغنائم وحدها ومعها كيان الاحتلال الصهيوني، فالتقديرات تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي إذا ما واصل تنفيذ الإملاءات الأميركية لتأزيم الأوضاع في أوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية على روسيا والإخلال بالمعاهدات الاقتصادية والسياسية والتعاون القائم بين الاتحاد وروسيا، فإنه (الاتحاد الأوروبي) سيتضرر اقتصاديًّا جراء رعونته والتزامه التبعية المطلقة للولايات المتحدة، في حال أقدمت موسكو على خطوات إجرائية للدفاع عن مصالحها ورد الاعتبار لكبريائها، كما سترتد الحماقة الصهيونية في نحر كيان الاحتلال الصهيوني، ويمكن قراءة ذلك من خلال:
أولًا: عودة جزء من الأراضي الروسية تم اقتطاعه في لحظة من الزمن فرضها المناخ العام آنذاك في حقبة الاتحاد السوفيتي ولم يكن في الحسبان أن تصل الأمور إلى ما صارت إليه الآن، حيث تتجه جمهورية القرم إلى إجراء استفتاء في السادس عشر من الشهر الجاري لتحديد مستقبل الجمهورية التي يبدو أن الجزء يتملكه الحنين بالعودة إلى الأصل، بحسمها مسبقًا قبل ظهور نتيجة الاستفتاء بالعودة إلى حضن الوطن الأم روسيا الاتحادية، وذلك لأن حوالي ستين في المئة من مواطني الجمهورية هم من الروس. إذن العودة ستكون طبيعية ودون أي عمل عسكري روسي لضمها، بل برضا سكان القرم التي تتمتع بحكم ذاتي ويسمح لها الدستور الأوكراني إجراء الاستفتاء لتحديد مستقبلها. كما أن عودة القرم مجددًا إلى روسيا لم تكن في حساب السياسة الروسية، فجاءت العودة هدية مجانية، وما "الزعرنة" الأميركية برفض الاعتراف بالاستفتاء والتلويح بقطع العلاقات الدبلوماسية مع روسيا سوى فقاعات تعبر عن عقلية "راعي البقر" التي لا تريد أن تعترف بأن العالم يتغير.
ثانيًا: استمرار تدخل الولايات المتحدة و"بيبيها" أوروبا في الشأن الداخلي الأوكراني والدفع بالحكومة الانقلابية التي جاءتا بها لمناكفة الروس وتسليط الحركات المتطرفة والراديكالية ضد الموالين لروسيا، فضلًا عن فرض الأميركي والأوروبي مزيدًا من العقوبات على روسيا، فإن مؤدى ذلك إلى أمرين: الأول: حرمان أوكرانيا وأوروبا من إمدادات الطاقة الروسية وقد لوحت شركة غازبروم الروسية بقطع الإمدادات، بالإضافة إلى حرمان أوروبا من السوق الروسية وفقدانها للتعاون الروسي الذي لا يمكن أن تستغني عنه. الثاني: تقسيم أوكرانيا إلى قسمين شرقي وسيكون تابعًا لروسيا بحكم ولائه لها ويحظى بازدهار التجارة والصناعة جراء الدعم الروسي الكبير، فضلًا عن أن سكانه يتحدثون اللغة الروسية. قسم غربي وسيكون تابعًا لأوروبا المأزومة سياسيًّا واقتصاديًّا بحكم ولائه لها، ما سيشكل عليها عبئًا كبيرًا لن تستطيع احتواءه وتلبية مطالب سكانه، فإذا كانت أوروبا عاجزة عن دعم اليونان والبرتغال وأسبانيا، فكيف بها حين تضاف إليها قوة بشرية أوكرانية تعاني الفقر والبؤس وتبحث عن فرص عمل. والدعم الأميركي والأوروبي المزعوم سيكون تحت مشانق البنك الدولي التي ستتولى فصل الأعناق عن الأجساد بسبب الشروط التعجيزية والصارمة.
ثالثًا: الاستمرار في استفزاز الدب الروسي والتدخل في الشأن الأوكراني وجمهورية القرم بما يهدد الأمن القومي الروسي، من المحتمل أن يدفع روسيا إلى التدخل باستخدام القوة بحجة حماية الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا، ما سيشجع نظراءهم في الدول المجاورة كأستونيا وليتوانيا التي بها غالبية روسية ورفضهم التبعية لأوروبا والمطالبة بالتدخل لحمايتهم، الأمر الذي سيترتب عليه تقويض استقرار دول الاتحاد الأوروبي.
رابعًا: وهو الأهم، وفي تقديري، أن روسيا وقد علمت العابثين بأمنها واستقرارها والواقفين أمام مصالحها ونفوذها ـ وأعني في مقدمتهم الصهاينة الموالين لكيان الاحتلال الصهيوني والداعمين له ـ سيكون ردها مركبًا، سواء من جانبها أو من جانب حلفائها في المنطقة، فروسيا بحكم تحالفها تملك نفوذًا واحترامًا وتقديرًا ومصالح متبادلة، ودعمًا متبادلًا، ولديها القدرة على التأثير، وهذا ما سيبرز في حال أقدم كيان الاحتلال الصهيوني على حماقة ضد حلفاء وأصدقاء روسيا في المنطقة، بحيث تستدعي ردهم عليها، وقد علمنا ـ على سبيل المثال ـ أن سوريا امتنعت عن الرد على العدوان الصهيوني على مركز البحث العلمي في جمرايا تقديرًا للطلب الروسي.
إذن، سوريا وأوكرانيا يغيران قواعد اللعبة ويصنعان الحدث بتغيير موازين القوى وتعديلها، وبهما يمكن رؤية ولادة جديدة لعالم جديد، واندحار حماقة صهيونية جديدة.