[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
ليس هنالك عبقرية، مفهوم أصر عليه، يقابل ذلك تعب وجهد ومراس، ما من كاتب يولد من فراغ، هو ابن التثقف الذاتي الذي لايكل ولا يمل .. كل ممارس لأية مهنة ستصل به خبرته فيها الى شبه الكمال. لكن كل بداية صعبة، مقلقة ومؤرقة .. لابد من يعلم، والمعلم متقن وفاهم. من افضل المذيعات اللبنانيات حاليا تهربت في بدايتها من الميكروفون، عندما دخلت الى الاستوديو تلعثمت، اصفر وجهها وناحت، ثم رفضت العودة الى ان جاؤوا بها من البيت لأنها تملك خامة صوتية مميزة.
معظم اللبنانيين في بداية حياتهم الكتابية قلدوا اسلوب جبران خليل جبران، بعدما كانوا اثناء دراستهم قد قلدوا ايضا مصطفى لطفي المنفلوطي في الانشاء وهو كمصري اثر ايضا في اجيال مصرية. ومن كتب الشعر حاول التقليد ايضا بحثا عن صوته الخاص في النهاية. ولهذا ما من فتى أو فتاة إلا ويشعر بكتابة أفكاره ويظن انها شعر مع انها خواطر بدائية، ومع الوقت يتساقط كثيرون ليبقى اصحاب المواهب الحقيقية، ومن هؤلاء من يتقدم ليصبح مشهورا وهم بعدد اصابع اليد الواحدة، لأنهم تعبوا في التحصيل من اجل صقل مواهبهم. وكلما زاد المرء في خبرته اي تقدم به السن، ازداد معرفة، والمعرفة لا تأتي الا من الكتاب، ومن الممارسة، من حس المتابعة لآخر. علما ان معظم اهل الاختصاص الواحد المتشابه يغارون من بعضهم البعض وإن كانوا في اعماقهم يعترفون بالمتمايز في ما بينهم.
كان الشاعر شيللي يردد " اللهم اجعلني مفهوما "، وهذا سر من اسرار الكتابة ليس الايضاحية، بل تلك التي تخلو من التعقيد، مع ان الشاعر بابلو نيرودا احاط بعض كتابته بنوع من الغموض الشعري.
ثمة عدة كتب تعنون " فن الكتابة "، مما يعني ان لها قواعدها .. فكل نوع كتابي له اسلوبه ومفاهيمه وقواعده، تلك يتعلمها من يرشح نفسه للمضي في نوع من تلك الانواع، ثم تصبح لديه مع الوقت كحرفة خالصة.
لم يقل الشاعر الفلسطيني محمود درويش انه يرفض تجربته الاولى في كتابة الشعر، لكنه كم أوضح انه لايريد العودة اليها، وكثير من امسياته الشعرية كان يطلب منه قصائد معينة ك " سجل انا عربي " مثلا فكان يعتذر، بل انه ذات مرة وفيما كان وراء الميكروفون صرخ احدهم في القاعة مطالبا اياه ان يسمعه تلك القصيدة فرد عليه على الفور " سجل انت ".
بل ان فيلسوفا كبيرا كجان بول سارتر كان يتمنى لو ان بعض ماكتبه في مراحل حياته الاولى لو يستطيع تغييره وهذا محال بالطبع لأنه بات مطبوعا في كتاب او مجلات ومتوافر بأيدي قراء. هذا الطموح لعله موجود لدى بعض من يستسهل الكتابة في بدايات مشواره الابداعي، فاذا به عند المراس والخبرة والتثقف وايجاده صوته الخاص، لايتمنى العودة الى ماسبق في تجربته.
" كل شيء يضيق بما فيه الا وعاء العلم فهو يتسع " كما يقول الامام علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه)، تلك سمة المعرفة الانسانية، وكم تألم الكاتب البريطاني كولن ولسن وهو يتنقل بين المكتبات فيرى واجهاتها مملوءة بكل جديد فكان يشعر بالأسى لأنه لن يستطيع قراءة هذا الكم خلال عمره او ماتبقى منه. ثم اني اعرف " مرض " القاريء النهم كم يتحسر على الوقت ايضا من اجل قراءة الاساسيات التي تهمه. لاتعني قراءة الكتب الجامعية انها حققت المبتغى للدارس، سوى انها تحقق لها الاساسيات وطبيعة المنهج التفكيري. هنالك مئات الآلاف الذي يتخرجون من جامعات العالم، في حين لايصلح اكثرهم الا للحصول على وظيفة وهذا جل مايتمناه كثيرون .. اما القلة القليلة التي طرحت على نفسها سؤال الاستمرار في المتابعة والتحصيل، فهي من ترى في داخلها مشروع كاتب، وهنا يبدأ مشوار البحث عندها، وهو حياة.
لكن الأسلوب هو الرجل كما يقول المثل الفرنسي، من السهولة بمكان تقليد الآخرين، كلنا قلدنا في بداياتنا الكتابية، لكن البحث عن الذات وسط ذاتيات الآخرين امر يحتاج لزمن تمزق فيه اوراق بالجملة ومحاولات كتابة دائمة .. اذكر ان صحافيا بات مشهورا فيما بعد حين قدم اول عمل له الى صاحب مجلة " الحوادث " سليم اللوزي ان رمى المقال في وجهه طالبا منه ان يعيد صياغته، بمعنى ان يضع ذاته وروحه فيه .. قال لي هذا الصحافي فيما بعد، تلك الطريقة هي التي علمتني ان اتنبه وان احفر حفرا على الورق.
في كليات الاعلام مثلا لايتعلم الطالب سوى ابجديات العمل الصحافي، عرفت بعضهم وبعضهن ممن تخرجوا وحملوا الشهادة وذهبوا الى سوق العمل فاذا بهم يتقنون فن كتابة الخبر لكنهم يجهلون كيفيته، ناهيك عن تفاصيل تعليمية اخرى. والواضح ان بين هؤلاء الذين هم بالآلاف في وطننا العربي يتقدم عدد لايتجاوز اصابع اليد الواحدة الى المسؤولية الكبرى في الكتابة، بعضهم لاسباب دفع من قريب او صديق، وبعضهم من خلال شخصه وقدراته التي تم تحصيلها بشكل شخصي بعيدا عن الجامعة التي تخرج منها.
لاتخرج الجامعات عاطلين عن العمل كما يقال لأن الشهادة سلاح سيأتي وقت ما لاستعماله .. يقول الامام علي بن ابي طالب المال تحرسه انت اما العلم فيحرسك "، مامن متعلم صاحب شهادات وكفاءات الا وله دوره المستقبلي .. وما من متعلم الا ونال حصته في الحياة مهما شعر بان الوظيفة تبعد عنه فهي تظل اقرب اليه.
ونعود الى الاسلوب، اذ ليست الكتابة وحدها ماينطبق عليها هذا المفهوم ، بل ربما لباس المرء ايضا، وطريقة عيشه، وأكله، وعلاقاته ... الكائن البشري واحد في كل سمات الحياة .. من المؤسف ان البعض يعيش حالة انفصام شخصي، هنالك شاعر قومي كبير يعيش هذه الحالة، فهو مختلف في شخصه عن شعره، في وقت اذا اخذنا الفنان السريالي الكبير سلفادور دالي فان حركة حياته مطابقة لافكاره ورسوماته، كأن مثلا يأتي لافتتاح معرضه، مرة يقتحم المكان راكبا على دراجة نارية، ومرة يأتون به في تابوت .. كانت له افكار وخلاصة علاقات خاصة جدا.
كان للشاعر الكبير المتنبي طموحات جسدها في الشعر، لكنه ايضا وضعها في خدمته من خلال علاقات مميزة مع كبار القوم فصارت اسلوب حياته، فتراه يقول مثلا :" يقولون لي ما أنت في كل بلدة وما تبتغيّ؟ ما ابتغي جل ان يسمى/ واني لمن قوم كأن نفوسهم بها انف ان تسكن اللحم والعظما / كذا انا يادنيا فإن شئت فاذهبي ويانفس زيدي في كرائهها قدما / فلا عبرت بي ساعة لاتعزني ولاصحبتني مهجة تقبل الظلما". كون هذا الشعر حياته على هذا الأساس من المعتقد ومارسه بقوة فكان اسلوبه في الحياة، وربما قتله اسلوبه ايضا لأنه حين حشره من جاء لقتله حاول الهروب فقال له " كيف تهرب وانت القائل / الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم " فرد عليه " لقد قتلتني والله " وهكذا صار.
اذن، هنالك تطابق بين اسلوب الرجل في التعبير ونظام حياته، وبالاعتقاد فان اي ترجمة مختلفة لهذه الفكرة يصبح انفصاما في الشخصية وما اكثره في حياتنا. فنحن غيرنا عندما نريد .. وكم يتلون كثيرون من اجل موقف او حدث او مصلحة .. البعض يعتبره مهارة، ربما احتاج الامر الى مثل هذا الاداء في لحظة مصير. أوصى المليونير اليوناني المعروف اوناسيس ابنه الذي ورثه في املاكه وشركاته وعلاقاته "ان استقبل الناس بوجهك .. وجهك هو الحقيقة التي تجعلهم اما ان يحبونك او يعرضون عنك حتى لو سايروك ".
في هذا العالم الذي سوف ينطلق فيه المرء، تحكمه عموميات وخصوصيات .. لايمكن للمرء ان يعيش منزويا والا كان مريضا بالكآبة .. علم النفس يدعو كل من يشكو هذا المرض الخروج الى الطبيعة، ومخالطة الناس ومشاركتهم بالحياة الاجتماعية والثقافية، بالندوات والمؤتمرات ، بالنقاشات .. ليس الآخر فقط هو الجحيم كما يقول سارتر، يمكن لهذا الآخر ان يكون منقذا نفسيا رغم قلة من ينتمون اليه.
محبو الطبيعة كثر، المشهد الجميل مدهش في النظرة الاولى اليه، بعدها يعتاد المرء عليه فلا يعيره اي اهتمام. والعلاقات بين الناس تبدأ على خير مايرام ثم، قد تنفجر لاسباب لأن للاشياء سحرها في بداياتها فان تكررت تخسر تأثيرها الاول. عندما يتعرف الرجل على فتاة ويرى فيها انها تصلح لتكون رفيقة عمره، ينبهر الاثنان ببعضهما في البداية، لكنهما بعد الزواج يتغيران، تنخفض نسبة الحب الاول، لتعلو مكانها اما الكراهية او الاحترام والثقة، فتؤدي الاولى الى مزيد من المشاحنات، فيما الثانية الى التراص اكثر .. ومرة قال لي احد الاصدقاء الذين يعملون في القضاء الشرعي ان نسبة الطلاق اكثر بكثير من نسبة الزواج، مع ان المطلقين شباب في عمر الزهور واختاروا بعضهم عن حب ، لكن العشرة والطريق الطويل يكشفان غش العلاقة التي بدأت منذ لحظتها وقامت على اسس واهية كانت فيها الرغبة هي الاشد.
ونعود الى الاسلوب، الناس في بلادنا بطبيعتهم وديعون، لكن خبرة الحياة كما يكرهها الشاعر بليك لأنها مخربة للشخصية برأيه، تحيل المرء دائما الى الشك في كل شيء، ولأن الشك طريق اليقين كما يقول المثل، تصبح حياة المرء في هذه الحالة لكثرة شكوكه ملعبا للخبرات ومسرحا لها، منا من يستفيد منها ، ومنا من يعيد تكرار مافشل به. ولهذا نقول ان الاسلوب هو الرجل .. الحياة كلها اسلوب، لاينفصل المرء في حياته عن ذاتيات مشبعة برغبة التمايز .. لكن هيهات ان يصل لأن هنالك رغبة أوثق وهي حب التفوق في كل شيء، وهو مانراه بين ابناء القرى تحديدا حين يتنافسون في بناء بيوتهم او في لباسهم وفي نوعية سياراتهم .. انتصار المعنى الخارجي مهم للشخص المنافس ، وهؤلاء هم الكثرة الساحقة في الحياة.