قراءة ـ أحمد بن سعيد الجرداني:

جاءت ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان في دورتها التاسعة التي نضمتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفترة من 18ـ21 رييع الأول 1431 هجري الموافق 3ـ6 إبريل 2010 ميلادي، لتضع موضوع (الفقه الحضاري - فقه العمران) محورا لأبحاثها، لتوجه أنظار المشتغلين بالفقه الإسلامي إلى ضرورة بيان الأحكام الفقهية لما أفرزته الحضارة المعاصرة من مظاهر الرقي في العمران والصناعات والمهن والأعمال وفي مختلف المكونات الحضارية، وقد كان الفقه الإسلامي مسايراً للنهوض الحضاري والترقي الإنساني بل ودافعاً له، وضابطا في الوقت نفسه لحركة التطور المترقية بالإنسان، حتى لا تخرج الحضارة عن أسسها الفكرية وضوابطها والإخلاقية التي بنيت عليها، ومن هنا جاءت أبحاث هذه الندوة لتلقي الضوء على جوانب متعددة من مشاهد الحضارة مثل فقه العمران والبيئة، وفقه حقوق الإنسان والفئات الاجتماعية، وفقه الأسواق والمرور، ونحوها مما يدخل في هذا النطاق.
وحول ما قدم في هذه الندوة من بحوث وأوراق كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان( فقه الجيران والضيوف فقـه البيت لسكنى الضعفاء - الخانات - دور الضيافة) للشيخ محمّد أيوب صدقي أستاذ علوم القرآن وأصول الفقه والفقه المقارن والأدب العربي قسم التخصص في العلوم الإسلاميـة مؤسسة عمي سعيد - غـرداية - الجـزائـر..
فقد تكلمنا سابقاً عن حقوق الجار من خلال الاستشهاد القرآني والحاديث النبوية... واليوم نواصل ما تبقى من هذا البحث..

الضيافة
وحول موضوع الضيافة يبين لنا الشيخ محمد أيوب بقوله: يبدو أنّ إطلاق لفظة ''البِرِّ'' في المجال اللغوي يراد بها الصفاء النفسي في الإحسان للآخرين. ومن هنا كانت في الجاهلية تفوق في مدلولها معنى الكرم أو الجود. لأنّهما في معنى الارتياح إلى التفضّل الذي لا يخلو من الشعور بالفخر أو انتظار المكافأة، لذلك نرى لكلمة البر ''معنى الصدق، والطاعة، والصلة، والإصلاح، والاتّساع في الإحسان إلى الناس، والرغبة في إسداء الخير لهم'' لهذا نراها على سبيل المثال وصفا لإكرام المرء لوالديه. فهو بار عكس عاق.
كما نرى استعمالها في مضمار الحلف وصفا للملتزم باليمين، فيقال برّ بيمينه إذا لم يعد له أيّ تفكير في التنصل منه. علمًا بأنّ لليمين، خاصّة، مكانةً قيّمة عند الجاهليين. قال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريـبة
ولعل التحالف العسكري والتفاني القبلي في الالتزام به خير ما يفسّر هذه الظاهرة. ولاشكّ أنّ ارتياح أهل الجنّة لِما يغدق عليهم من النعيم الخالص من الشوائب يجعلهم يتذكرون ماضيهم في الدنيا ويعظُم استشعارهم للمنّة الإلهية المطلقة قائلين: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ أَنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
(ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن معناه اللغوي فهو عندهم اسم جامع للخيرات كلّها يراد به التخلق بالأخلاق الحسنة مع الناس، بالإحسان إليهم وصلتهم والصدق معهم. ومع الخالق بالتزام أمره واجتناب نواهيه...الخ)

الصدقة برهان
وهنا يوضح الباحث حول البر والصدقة قائلاً: هكذا رأينا كيف وظّفها الإسلام توظيفا رائعا للتعبير عن هذا التصور المثالي لمن يطعم الطعام على حبّه...قائلين: (اِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُورًا).
فالبرُّ إذن مثالية يعتبرها الإسلام برهانا على الإيمان الخالص ''والصدقة برهان'' وهذا ما نستشفه من آية (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ).
وكلّما كـان الإنفاق في ظروف صعبة وخاصّة قبل أن تكون للإسلام كلمة عليا كـان برهانا على رسـوخ هذا الإيمان (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنَ اَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذِينَ أَنفَقُوا مِنم بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).
وحينما وجد السفهاء المشكّكون في مصداقية الوحي الجديد فرصةً في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. واستغلها اليهود بصفة خاصّة بالأرجاف والترويج لتشويه سمعة الدين الجديد مع أنّهم يتوقعون تحقيقها، مصداقا لما يجدونه عنها في كتبهم (وَإِنَّ الذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ). زاعمين أنّ مظهر البر هو الوفاء لقبلة الأنبياء السابقين. وأنّ التوجه إلى مكة حنين شخصي لمحمّد إلى موطنه الأصلي. وهذا تنكر للبر والفضيلة والوفاء للقبلة الأصيلة، كما أنّه تعبير عن انفصالية وبعدٍ عن حقيقة التديّن والبرّ في الوفاء للذين آووه ونصروه. فجاءت الآيات صريحة بأنّ الذين تنكّروا لهذه القبلة يعلمون قبل غيرهم أنّه تحقيق لِما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل:(الذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
إنّ الذين يستسيغون أن يتلاعبوا بالتوصيات الإلهية. وهم يعلمون أنّه تزييف للحقيقة إنّما يتهرّبون من الاعتراف بما يزعمون الانتساب إليه (فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ). وكأنّ هذا ما يعنيه الرسول (في المقارنة بين البرّ والإثم في حديثه المشهور: "البرّ ما اطمأنّت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر وخفت أن يطّلع الناس عليه، استفت نفسك ولو أفتاك الناس وأفتوك".
لذلك جاءت الآيات حاسمة بحقيقة البرّ، وإحالة الناس إلى ضمائرهم لاستجلاء الحقيقة. فقضية القبلة التي أثاروا حولها زوبعة في كأس إنّما هي تنظيم للتوجه ومخبر للطاعة. (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَّـتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَّنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ). وكانت مناسبة لتوضيح التصوّر الصحيح للبرّ وللبررة: (لَيْسَ الْبِرُّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنِ الْبِرُّ مَنَ ـ امَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيئِينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ) لذلك حرص المؤمنون المتّقون أن يسترشدوا الوحي: (مَاذَا يُنفِقُونَ) فجاءهم الجواب: (قُلِ العَفْوَ) أي الفاضل عن الحاجة بدون تكلّف. وحين تكرّر السؤال كان الجواب على طريقة أسلوب الحكيم: ليس المهمّ ماذا تنفقون! فهذا راجع إلى أريحيتكم ورغبتكم في إسداء النفع لمن هو أهل له: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ: مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).. ولابن السبيل في هذا المجال: البر أو المساهمة في النفع العام لفتة خاصّة سنتعرّض لها فيما بعد.

الاستباق إلى الخير والوقف
فإذا بالصحابة رضوان الله عليهم يضربون أروع الأمثلة في هذه المبادرة والاستباق إلى الخير ويجدر في هذا الصدد أن أقدم بعض العيّنات ممّا ذكره السيّد سابق لمزيد إفادة:
وفي رواية للبغوي: إنّها كانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة وكان يبـيع منها القربة بمد، فقال له النبي (تبعنيها بعين في الجنّة؟ فقال يارسول الله: ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثمّ أتى النبي فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال: نعم، قال قد جعلتها للمسلمين').
'وعن أنس قال كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة مالا. وكان أحبّ أمواله إليه ''بيرحاء'' وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، فلمّا نزلت هذه الآية الكريمة (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ). قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال إنّ الله تعالى يقول في كتابه: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنّها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يارسول الله حيث شئت، فقال رسول الله: بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح! قد سمعتُ ما قلت فيها، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه).
وعن ابن عمر ما قال: أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي يستأمره فيها. فقال: يارسول الله، إنّي أصبت أرضًا بخيبر لم أُصب مالا قطّ هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ فقال له رسول الله: إن شئت حبست أصلها، وتصدّقت بها فتصدّق بها عمر: أَنّها لا تباع ولا توهب ولا تورث، وتصدّق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويَطعَم غير متمول'.
قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب رسول الله وغيرهم، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا، وكان هذا أوّل وقف في الإسلام.
ويرجع بنا الباحث قائلاً: تعتبر الضيافة مظهرا من مظاهر الجود والكرم عند العرب منذ الجاهلية وهي مصدر ضِفتُ الرجل ضيافة نزلت عنده ضيفًا. وأضفتَه وضيّفتَه أنزلتَه عليك ضيفًا، فهي من الإضافة بمعنى الإمالة. والمضيِّف يُميل إليه الضيف إكراما له وإيناسا به. وفي القرآن: (فَأَبَوَا اَنْ يُّضَـيِّـفُوهُمَا). فكان من مفاخرهم إكرام الضيف. وتكريمه بكلّ ما يجعله يرتاح إلى الضيافة، ويطمئن إلى أنّه غير مستثقل. وممّا قيل في ذلك:
بشاشة وجه المرء خير من القِرى فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
والقِرى ما يقدّم للضيف ابتهاجًا بقدومه. ولعلّ في الإشارة القرآنية إلى سيّدنا إبراهيم وضيفه المكرمين: (فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) صورة معبِّرة عن هذه المأثرة. وذلك ما تفرضه طبيعة بيئتهم التي تقتضيهم التنقل. ومن مأثور ما نسب لحكيم العرب أكتم بن صيفي ''ذلّلوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلّموها المكارم، ولا تقيموا على خلق تذمونه من غيركم. وصِلُوا من رغب إليكم وتحلّوا بالجود يُكسبكم المحبّة. ولا تقتعدوا البخل فتعَجلوا الفقر''. أخذه شاعر فقال:

وأخَّرت إنفاق ما تجمع؟ **أمن خوف فقر تعجلتَه

وما كنت تعدو الذي تصنع** فصرت الفقيرَ وأنت الغنيُّ!

ثمّ أكّد الإسلام كرم الضيافة، واعتبره من مكارم الأخلاق التي بُعث النبي لإتمامها، وفي الحديث "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه". وروي "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوما وليلة - ويروى يومٌ وليلة- والضيافة ثلاثة أيّام وفوقها صدقة.
فالضيافة تنبني على الزيارات والاختيارات. وما يذكره الفقهاء من واجبات حسن الضيافة. كقولهم: ''لا تجُد بمفقود ولا تبخل بموجود''. كما لم يخل الموضوع من إرشاد الناصحين لكلّ من الضيف والمضيِّف لمراعاة آداب المناسبة. وقد سئلت أمّ المؤمنين عائشة عن آية (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ). فيمن نزلت؟ فقالت: نزلت في الثقلاء! وما أحسن ما قاله شاعر في هذا الصدد:
يكره القوم لقاءك** لا تكن ضيفًا ثقيلا
أن يكونوا أصدقاءك** ليس من ذنب أناس
واصِلا فيهم مساءك** فتحِلَّ الصبح فيهم
تزعج الخِلّ إزاءك** أنت لا تدري إلى كم
لك من قومٍ عشاءك** فعساه مستعيرًا
لك من قوم غِطاءك** وعساه مستمدًا
وفي السوق غِذاءك** إنّ في الفندق مأواك
ثمّ لا تكثِر بقاءك** إن تزر فَلْيَكُ غِبًّا
يكسر الزِّيرَ وراءَك!** رُبَّ من يلقاك رحبًا

ومن نوادر الضيافات والزيارات أقصّ هذه القصّة بالمناسبة نقلاً من كتاب العقد الفريد: ''وقال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطّاب ( يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتّى يرجعوا. فلمّا قدمنا أتيت ''يـرْفَأَ'' [مولى لعمر] فقلت يا يرفأ إنّي سائل مسترشد، أخبرني أيّ الهيآت أحبّ إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة، فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبّة صُوف، ولُثْتُ رأسي بعمامة دكناء. ثمّ دخلنا على عمر، فصفَّنا بين يديه وصعَّد فينا نظره وصوَّب، فلم تأخذ عينه أحدا غيري، فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي، قال: وما تتولّى من أعمالنا؟ قلت: البحرين، قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كلّ يوم، قال: كثير! فما تصنع بها؟ قلت: أتقوّت منها شيئا، وأجود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا بأس، ارجع إلى موضعك، فرجعت إلى موضعي من الصفّ. ثمّ صعَّد فينا وصوَّب فلم تقع عينه إلاّ عليَّ، فدعاني فقال: كم سنوك؟ قلت: ثلاث وأربعون سنة، قال: الآن حين استحكمت، ثمّ دعا بالطعام وأصحابي حديثو عهد بلين العيش. وقد تجوعت له! فأُتي بخبز يابس وأكسار بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت آكل وأجيد الأكل، فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم، ثمّ سبَقتْ منّي كلمةٌ تمنّيت أنّي سُختُ في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت يا أمير المؤمنين: إنّ الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا؟ فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قُوتك من الطحين، فيخبز لك قبل إرادتك إيّاه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز ليِّنًا وباللحم غريضا. فسكت من غربه. وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم! قال ياربيع إنّا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكنّي رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم، فقال: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) ثمّ أمر أبا موسى أن يقرّني على عملي، وأن يستبدل بأصحابي.

الضيافة من منظور فقـهي
كان عمر يعتبر الضيافة حقًّا، ولذلك قال: ''إذا مررتم براعي إبل أو راعي غنم فنادوه ثلاثا فإن أجابكم أحد فاستسقوه، وإلاّ فانزلوا واحلبوا واشربوا ثمّ صروا'' ولذلك فرضها على أهل الذمّة لمن مرّ بهم من المسلمين واعتبرها جزءًا من الجزية.
- سئل مالك عن معنى الحديث (حديث إكرام الضيف المتقدِّم) فقال يكرمه ويتحفه يوما وليلة وثلاثة أيّام ضيافة فتلك أربعة.
- ومن حديث آخر ''أجيزوا الوفود بنحو ما كنت أُجيزهم''
وقال ابن بطال: ''الجائزة غير واجبة والضيافة واجبة، ومعنى الإجازة ما تتحفه به ولو عند انصرافه''.
- وفي النيل: ''وندب لمن نزل به أن يكرمه ويقوم به (يخدمه) بنفسه ومن حقّه أن يقدّم له أحسن ما في البيت ويسرع له بعيشه، ويحفظ له أوقات الصلاة ودابّته بعلف وسقي ولا يغيب عن وجهه.
والضيافة فرض كفائي على الحيّ بأجمعه، إن لم يقصد أحدا فيلزمه بخاصّته. ولا تطل سكوتًا عن أضيافك فيتوحشوا ولا تستخدمهم، ولا تُجلس معهم من يثقل عليهم''.
- وقال القطب: ''وممّن قال بوجوب الضيافة أحمد بن حنبل، وقال: إنّ الضيف يأخذ ما يكفيه من مال من نزل عليه أو على بستانه وزرعه من غير رضا. وقال جمهور قومنا: الضيافة غير واجبة، وحملوا الوجوب على أوّل الإسلام إذ كانت المواساة واجبة، وحملوا الأخذ من غير رضا على المضطر. ويغرم بدل ما أخذه. لأحاديث [منها] لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس'.
ومن إرشادات الفقهاء للضيوف:
لا يحلّ أن يقيم حتّى يقلق مضيِّفه، ولا يحقر ما قدّم له، ولا يرمي بصره لنواحي المنزل، ويدخل ويخرج بإذنه، ولا يخبر بسرِّ أهل البيت، ولا يجلب لربِّه معه غيره بلا إذنٍ إن دعاه.
ويعذر فقير لم يجد ما يضيِّف. ولا يحلُّ لضيف أن يقيم معه على ذلك، ولا يطالبه بما يشتهي إلاّ إن كان صاحب البيت يفرح بذلك.
ومن اللياقة أن لا يفاجئه بالزيارة -وخاصّة في هذا العصر إذ يمكن الاتصال مسبقا بالهاتف- إلاّ إذا علم أنّه لا يتأذّى بذلك.
دون أن ننسى التنبيه إلى ما صمِّمت عليه الديار في ميزاب من اشتمالها على أجنحة خاصّة لاستقبال الضيوف.
وأشار معجم المصطلحات الإباضية إلى قسم من الأوقاف في عمان يطلق عليه وقف الضيافة، يجعل ريع هذا الوقف لإكرام الضيف الذي يفد على القرية، وعادة ما يكون هذا الوقف بيد من يمثّل القرية أو القبيلة كالشيخ، ويبدو أنّه عقارات تُستغل كراءً لفائدة هذه الطائفة الوافدة.

ابن السبيل وحكمـة التسمية
أمّا كلمة ابن السبيل التي نجدها في مناسبات البرّ العام من مصاريف الزكاة، والحضّ على الإنفاق، وإيتاء الحقوق، وتقسيم الفيء وخمس الغنائم، فهي أدقّ تعبيرًا في الدلالة على تصوير حاجات التنقل وما يتعرّض له المسافرون من أتعاب في وسائل النقل والإيواء. وما يعانيه البعيد عن أهله ووطنه من تكاليف الغربة، وقلق الابتعاد، وخاصّة ظروف التنقل لمن تقطعت بهم الأسباب بعيدًا عن أوطانهم القريبة والبعيدة، وحينئذ تبدو لنا بوضوح أهمية تسميتهم ''ابن السبيل'' كما يُطلق ''ابن البلد'' على الذي يُعرف بين أهله وذويه وهو مرتاح بين قومه. وقديمًا قال المثل الشعبي ''بْلادَكْ بنَاسَكْ، وبْلادْ الناسْ بَلْبَاسَكْ'' أي قيمتك في بلدك بقومك، وفي أوطان الناس بلباسك. وقريبا من هذا المعنى قولهم: ''لباسك يكرمك عند نزولك وعلمك يكرمك بعد نزولك''. وفي معنى الارتياح إلى الأوطان قول الشاعر:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى *** كما قرَّ عينًا بالإيّاب المسافـر

وهنا تظهر أهمية المرافق العامّة من تحسين الطرقات وتعميم الفنادق ومصايف الشباب والخانات ووكالات الحمامات ونظائرها ممّا يخفّف على المسافر الكثير من هذه الأعباء. مع ما نعلم من ترغيب الإسلام الناس في الضرب في الأرض: ابتغاء الرزق وطلب العلم والسير في الأرض للاستطلاع والاعتبار بمصائر الأمم الغابرة والتفتّح الفكري إلى غير ذلك من الدواعي التي تحثّ عليها نصوص كثيرة في القرآن والحديث.
وتفهّم تعليل هذه التسمية ''ابن السبيل، وهو في تعريفه عمومًا:
- عند الإباضية: المنقطع عن أهله خارجا عن أمياله لا عنده مال ولم يجد قرضا ولا تدينا.
- وعند جمهور العلماء -كما أفاده الشيخ القرضاوي- كناية عن المسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد.
- ويروى عن الطبري عن مجاهد، قال: لابن السبيل حقّ في الزكاة وإن كان غنيًّا إذا كان منقطعا به.
- وعن ابن زيد قال: ابن السبيل المسافر كان غنيًّا أو فقيرا إذا أصيبت نفقته أو فُقدت أو أصابها شيء أو لم يكن معه شيء فحقّه واجب59.
- واشترط بعض المالكية والشافعية أن لا يجد من يقرضه أو يسلفه في ذلك الموضع الذي هو فيه. وخالفهم آخرون من علماء المذهبين.
- ورجح ابن العربي والقرطبي أن يُعطى الزكاة ولو وجد من يسلفه، وفي رأيهما أن لا يدخل تحت مِنَّة أحدٍ فقد وجد مِنَّة الله ونعمتَه.
- وقال الحنفية: الأَوْلى له أن يقترض إن قدر ولا يلزمه ذلك لجواز عجزه عن الأداء.
- والجمهور على أنّه الغريب عن بلده. ولو كان ذَا يسر في بلده لأنّه عاجز عن الوصول إليه والانتفاع به فهو كالمعدوم في حقّه.
وقد نوّه القرضاوي بهذه المنشأة من قِيم الإسلام وممّا قال في ذلك: ''إنّ عناية الإسلام بالمسافرين الغرباء والمنقطعين لهي عناية فذّة، لم يعرف لها نظير في نظام من الأنظمة أو شريعة من الشرائع، وهي لون من ألوان التكافل الاجتماعي فريد في بابه، فلم يكتف النظام الإسلامي بسدّ الحاجات الدائمة للمواطنين في دولته، بل زاد على ذلك برعاية الحاجات الطارئة التي تعرض للناس لأسباب وظروف شتّى كالسياحة والضرب في الأرض، وخاصّة في عصور لم تكن في طرق المسافرين بها فنادق أو مطاعم أو محطات معدّة للاستراحة كما في عصرنا.
وحين اقتضت الضرورة تنقل الميزابين للتجارة خارج منطقتهم (مزاب) وفي كلّ أنحاء الوطن الجزائري حرَّضَت القيادةُ الاجتماعية من عزابة وأعيان المحسنينَ للتبرع بما تجود به أريحيتهم لشراء محلات تكون مأوى للمسافرين أثناء تنقلاتهم في الطريق، ومقرات لتجمعاتهم في البلد الذي يتواجدون فيه بكثرة حيث يجتمعون لإقامة الصلوات جماعة، واستغلال المناسبات للتوعية، وهكذا أصبحت أوقافا تتزايد باستمرار حين ثبت جدواها على مرور الأجيال. وأطلق عليها عرفيا ''ديار العرش'' والعرش يُقصد به الشعب، ثمّ امتدّت هذه المقرات والمصليات إلى خارج الوطن، فكانت للمزابيين ديار معروفة في الحجاز بمكة والمدينة وجدّة، وفي فرنسا بباريس ومرسيليا. ولا تكاد الآن مدينة من الحواضر في كبريات المدن الجزائرية شمالا وجنوبًا إلاّ وفيها مقرات معروفة للميزابيين. وكان -ولا يزال- لها دور كبير في تسهيل مهمّات التنقل، وخاصّة للعائلات والإيواء ومساعدة الوافدين في قضاء مصالحهم بتلك المدينة، وخاصّة حينما توسعت نشاطات الأمّة إلى فتح مؤسّسات ثقافية ومدارس، وهذا من أحسن ما ساهم به المحسنون في مشاريع ابن السبيل.