عبدالعزيز الخروصي :
توجه الهيئة لحفظ الرواية الشفوية لما لها من قيمة تاريخية وبحثية في كشف الحقائق
مسقط ـ "الوطن" :
يُعتبر التاريخ الشفوي (المروي) من الوثائق المهمة، والتي لا تقل أهمية عن الوثائق المدوّنة فهي تحفظ جوانب مهمة من التاريخ الوطني، والمتأمل في هذه العبارة يجد أنّ هناك ما يوحي إلى التوثيق الشفوي، فالتاريخ العماني حافل بالأحداث والإنجازات والتي يجب أن توثق بكل الوسائل الممكنة، فلأن الرواية تمثل أهمية كبيرة في توثيق المعلومة، سعت هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية مع بداية عام 2013م إلى العمل على هذا المشروع الوطني لتوثيق وحفظ التاريخ الشفوي والذي يمثل جزءا من الذاكرة الوطنية إلى جانب الوثيقة المكتوبة.
وحول هذا المشروع تحدث الدكتور عبدالعزيز بن هلال الخروصي مدير دائرة البحوث والدراسات بالهيئة والمشرف على عمل المشروع ، بنبذة عامة حول عمل المشروع وأهم أهدافه وأهميته للبحوث والدراسات والآلية المتبعة فيه، ومكانته من الذاكرة الوطنية بعد أن تخطى المراحل الأولى من العمل.
ويعرّف "الخروصي" في البداية مفهوم التاريخ الشفوي فيقول : هناك عدة مفاهيم للتاريخ الشفوي، لكننا نختصرها بأن التاريخ الشفوي هو الرواية التي تتناقلها الألسن من شخص لآخر، أو من جيل لجيل، ولم تجد العناية أو الاهتمام لتدوينها، وتحمل في طياتها معلومات قيّمة في مختلف المجالات، وكثيراً ما تطالعنا عبارات على سبيل الاختصار لا للحصر كـ: حدثنا فلان عن فلان، وذكر فلان، وقال لي فلان وغيرها.
ويضيف حول "عالم التاريخ الشفوي" : من خلال تجربتنا العلمية والعملية في مجال حفظ الذاكرة الشفوية، فإننا وجدنا بأن الدخول إلى ذاكرة التاريخ الشفوي، هو دخول إلى عالم واسع من المعلومات والمعارف في شتى الميادين، إذ أن المعرفة لا تقتصر على جانب دون غيره. وهو عالم مشوّق، فالذي يعمل في هذا المجال يتواصل مع شخصيات لها مداركها ومعارفها، ولها تجاربها. وكثيراً من المعلومات والأحداث أو التفاصيل في مجالات مختلفة والتي كانت غائبة عنا، ولم تحض بالذكر أو حتى الإشارة إليها في المصادر والمراجع المخطوطة أو المطبوعة أو الوثائق، أو ذكرت في المراجع إلاّ إنه لم يتم تناولها بعمق وموضوعية، فوجدنا من ينقدها ويبدي رأيه حولها، نظراً لكون هؤلاء ممّن كانوا فاعلين فيها، أو معاصرين لها، أو قريبين من صناعها. إنه بحق عالم مليء بالمعلومات التي تثري الذاكرة الوطنية والإنسانية بشكل عام.
ويضيف "الخروصي" : يذهب بعض الباحثين على أن كل التواريخ منذ المؤرخ الإغريقي هيرودوت كانت في أغلبها شفوية، بعدها دوِّنت و كتبت. ويمكن لنا القول إنّ علم التاريخ عند العرب بدأ شفوياً، من خلال الرواية التي يتناقلها الناس، وأيضاً عبر الاسناد المتواتر أو المنقطع، وبعد مرحلة التدوين والكتابة بقيت الرواية الشفوية مصدراً مهماً لكتابة التاريخ. ويبقى السؤال المهم هو: من يؤرِّخ لمن ليس لهم تاريخ مكتوب ؟ أي الذين لم تسعفهم ظروفهم ولم تتوفر لهم الوسائل والأدوات لكتابة تاريخهم، ولم يجدوا من يكتب عنهم تاريخهم.
إنّ الرواة ومن لديهم المعلومة ومن عايشوا الأحداث أو صنعوها، أو سمعوا عنها، وأولئك الذين انتقلت اليهم تلك المعلومات من جيل لآخر، يُعدون مصادر ومراجع لهذه الوثائق الشفوية.وقد وجدت الرواية الشفوية مكانتها البارزة في التراث الإسلامي، وعلماء ورجال الحديث النبوي الشريف الذين كانت لهم رؤيتهم الواضحة في هذا المجال، والتي تقوم على ضوابط معينة كحال الرواة ومعتقداتهم والقبول والرد والعدالة وغيرها من الأسس التي تُبنى عليها مصداقية الرواية الشفوية.
أهمية المشروع
وحول أهمية مشروع التاريخ الشفوي يقول عبدالعزيز بن هلال الخروصي مدير دائرة البحوث والدراسات بالهيئة والمشرف على عمل المشروع : تأتي أهمية المشروع من كون ذاكرة الإنسان معرّضة للضعف، أو تصاب بالنسيان في بعض الأحيان، وحتى بالاندثار وذلك ببلوغ الرواة وممّن يمتلكون المعلومات من السِّن ما يجعلهم غير قادرين على التذكر والسرد، أو بالمرض أو بالوفاة. فكان توجه الهيئة لحفظ الرواية الشفوية لما لها من قيمة تاريخية وبحثية في كشف الحقائق وإبرازها لاحقاً للباحثين، ويأتي مشروع التاريخ الشفوي كأحد المشاريع الهامة على المستوى الوطني.
ويضيف .. يتم التواصل مع الشخصيات المرشحة لإجراء المقابلات، من خلال الجهات الحكومية والخاصة والأهلية أو من خلال التواصل المباشر، وفي هذا السياق فقد تم التواصل مع المسئولين في وزارة الداخلية ومحافظتي مسقط وظفار ومجلسي الدولة والشورى للإفادة عن المكرمين أعضاء مجلس الدولة، وأصحاب السعادة أعضاء مجلس الشورى والمشايخ وممّن يجدون لديهم المعلومات والمعارف التي تثري الذاكرة الوطنية. وتخصيص بعض القاعات أو الغرف في مكاتب أصحاب السعادة الولاة، الذين أبدوا ترحيبهم بفريق العمل ومساندتهم للمشروع. وقد بدأنا في تلقي الردود والأسماء. وفي هذا المقام لا يسعنا إلاّ أن نتقدم بخالص الشكر والثناء لهذه الجهات ولجميع من تعاون ويتعاون معنا، على تعاونهم وجهودهم ودورهم في إنجاح المشروع.
ويقول "الخروصي" :سيتم في المستقبل القريب إطلاق حملة إعلامية في وسائل الإعلام المختلفة، من أجل إيصال رسالة الهيئة عن هذا المشروع الوطني إلى الجمهور الكريم، وتعريفهم بأهمية حفظ الذاكرة الشفوية، والفوائد المرجوة من هذا العمل ، كما سيتم الشروع في القريب بتنظيم ندوات وملتقيات في محافظات السلطنة من أجل تعريف المواطنين والباحثين والمهتمين بالتاريخ الشفوي العُماني بمختلف ميادينه. ولكي يكون فريق العمل بالقرب من الجميع.
إجراء المقابلات
وحول المقابلات يقول مدير دائرة البحوث والدراسات بهيئة الوثائق والمحفوظات : يتم التواصل مع الأشخاص المرشحين لإجراء المقابلات والحوارات معهم، والبعض منهم قد يتطلب بعض الجهد والوقت من أجل إقناعهم لإجراء المقابلات، وقد نجلس معهم ونتحاور ونوضّح لهم أهمية المشروع، والمجالات التي يمكن أن نتطرق إليها في المقابلة، والحمد لله وجدنا تجاوباً كبيراً منهم، فلهم كل الشكر والثناء.
ونظراً إلى أهمية توفير أكبر قدر من الهدوء والراحة للراوي، فإن تحديد أوقات وأماكن إجراء المقابلات يتم بمعرفة الراوي نفسه، فهو أدرى بأوقاته المناسبة الذي يكون فيها فارغاً من أي ارتباطات أو أعمال، وتكون ظروفه مناسبة لإجراء الحوار. كما أنه يختار المكان المناسب الذي سيتم إجراء المقابلة فيه، سواءً في مقر الهيئة، أو منزله أو مزرعته، أو في مكتب سعادة الوالي أو غيرها من الأماكن التي يجدها مناسبة، وأيضاً يراها فريق العمل مناسبة لإجراء الحوار، حيث إن المقابلة تكون مسجلة بأجهزة التسجيل والتصوير الحديثة.
استوديو التاريخ الشفوي
ويضيف "مدير المشروع" : أنشأت الهيئة في مقرها، أستوديو مخصصا لإجراء المقابلات والحوارات، مجهز بأحدث الأجهزة والأدوات والتقنيات المتطورة في عالم التسجيل والتصوير، وفي القريب العاجل سيتم تجهيزه بأجهزة أكثر تطوراً، ليتواكب العمل مع الجديد في هذا المجال، ولدينا كوادر متخصصة في التصوير والمونتاج وغيرها. وهناك تنوع في المقابلات التي أجريت، ما بين المقابلات ذات الجوانب الاجتماعية والتاريخية والثقافية والزراعية والبحرية والسياسية والعسكرية وغيرها. ولكل مقابلة أسئلتها الخاصة وحواراتها التي تدخل ضمن اختصاصات واهتمامات الراوي.
ويضيف في الإطار نفسه : نظراً لخصوصية بعض المقابلات وطبيعة الحوار، ولمزيد من التفاصيل والشرح، فإنّ الأمر قد يتطلب النزول إلى أرض الواقع، وعدم الاكتفاء بالمقابلة داخل الاستوديو أو في المنزل، محاولين الإلمام بجوانب المقابلة وتفاصيلها، من أجل أن تصل فيما بعد إلى الباحثين والمهتمين بصورة أكثر دقة ووضوحاً. كما أجرى فريق العمل عدداً من المقابلات خارج السلطنة، وتحديداً في زنجبار، وذلك من أجل إلقاء الضوء على حياة الجالية العمانية الموجودة في تلك المناطق وظروف معيشتها، وطبيعة الأحداث التي مرّت بها. وسنقوم في القريب العاجل بزيارة إلى زنجبار لاستكمال عدد من المقابلات، على أن يتم مواصلة العمل في مناطق شرق أفريقيا والمناطق أخرى حسب منهجية العمل التي تم إعدادها.
ويضيف .. طبيعة المقابلات وأجواء ونوعية الحوار وشخصية الراوي تحتم علينا، أنّ لا نحدد وقتاً أو سقفاً محدداً من الدقائق أو الساعات لإنجاز المقابلة والحوار مع الراوي، فهناك اعتبارات عدة نأخذها في الحسبان، منها: طبيعة المعلومات التي يذكرها الراوي، وقدرة الراوي على التذكر والسرد، وظروفه الشخصية أو النفسية أو الصحية وغيرها. وبعض الرواة كنا نتوقع أن نحصل منهم على معلومات قليلة، فإذا بنا أمام شخصية تمتلك الكثير من المعلومات حول موضوع معيّن، وتلك المعلومات في غاية الأهمية، لذا فإن المقابلة قد تستمر لعدة جلسات ولقاءات إلى أن نستوفي ما نطمح الوصول إليه. وهناك مقابلات وحوارات مع بعض الرواة وصلت لأكثر من عشرين ساعة مسجلة، فلنخيّل كم هي المعلومات التي تم الحصول وقيمتها العلمية والتاريخية.
فن الحوار والمقابلة
وحول شروط الحوار يقول "الخروصي" : من الشروط الأساسية لإنجاح المقابلة والحوار أن يكون التعاون بين المحاور (الموظف) والضيف (الراوي) كبير، لأن هدف الطرفين هو إنجاح المشروع، وتقديم خدمة كبيرة للبلاد، وتعزيز الرصيد الوطني من خلال رفده بما تختزله ذاكرة الأفراد من معلومات قيّمة، ستفتح أفاقاً جديدة أمام الباحثين والدارسين والمهتمين بالتاريخ العُماني على جميع الأصعدة. وقد دخل فريق في دورات داخلية وخارجية، منها دورات متخصصة في إدارة الحوار بقناة الجزيرة وغيرها. ولا شك؛ في أنّ العبء الأكبر يقع على عاتق من يجري الحوار، ومدى إلمامه بمجال المقابلة، وهدوئه، وسرعة التأقلم مع الضيف، وسرعة البديهة، والإنصات والتركيز فيما يقوله الراوي، والقدرة على طرح الأسئلة وطريقة عرضها على ضيفه. وعليه أنّ يراعي المستوى الثقافي للراوي من حيث إلقاء الأسئلة بلغة سهلة، لتصل إلى سمع وعقل وذاكرة الراوي فيجيب عليها بكل سهولة ويُسر، وغيرها من الصفات التي يجب أن يتحلى بها من يدير الحوار.
قاعدة البيانات
وحول إعداد قاعدة بيانات بالمقابلات ومضمونها فيقول : من أجل تسهيل عملية المتابعة والاستفادة مستقبلاً من هذه المقابلات، فإنه سيتم إعداد قاعدة بيانات، وتصنيفها بحيث تحتوي على أسماء الأشخاص(الرواة)، ومجالات المقابلات ومضامينها، والكلمات الدالة، وتقسيمها إلى مقابلات رئيسية، تتخللها أقسام فرعية قد تنبثق عن المقابلة الواحدة ، والتي بلا شك ستسهل من عملية الاطلاع عليها.
ويضيف : يتم حفظ المقابلات في أماكن وأجهزة خاصة، ومهيأة، لاستيعاب مواد كبيرة ذات أحجام مختلفة، وفي أجهزة متعددة، حرصاً على ضمانها، مع مراعاة الجودة وأقصى درجات المهنية المتعارف عليها في حفظ مثل هذه المواد التسجيلية. مع الأخذ بعين الاعتبار التقدم العلمي المتسارع في طرق إجراء المقابلات الشفوية والحوارية وأساليب تخزينها وحفظها.
اما عن الاطلاع على نصوص المقابلات والحوارات فيقول الخروصي :لن يتم عرض المادة العلمية المستخلصة من المقابلات إلاّ بعد التأكد من سلامتها وجودتها، وبُعدها عن كل ما يثير بواعث الخلاف، أو الشقاق في المجتمع، أو يسيء إلى الآخرين، سواءً كانوا أفرادا أو جماعات، أو الإساءة إلى المذاهب الدينية، أو الإساءة إلى العادات والتقاليد، وغيرها. وستتاح نصوص المقابلات والحوارات التي تم نقلها من الصيغة الرقمية والتسجيلية إلى الصيغة الكتابية للباحثين والمهتمين بدراسات التاريخ الشفوي، وذلك حسب قانون الوثائق والمحفوظات الوطنية، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم:60/2007م، والآجل الزمنية وتصنيفها، والتي يمكن من خلاها معرفة مدى اتاحتها للاطلاع.
تكريم الرواة
وفي الختام يقول عبدالعزيز بن هلال الخروصي مدير دائرة البحوث والدراسات بالهيئة والمشرف على عمل المشروع : تقديراً من هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، لتعاون الرواة وجهودهم في إنجاح المشروع، وحتى يكون حافزاً للآخرين، فإنّ الهيئة ستقيم حفلاً، يتم فيه تكريم الرواة، ونأمل أن يتم ذلك خلال الفترة القريبة.